بدأت الجهود الهندية الرامية إلى التواصل، والتقرب من جنوب شرق آسيا تكتسب زخماً متزايداً في الآونة الأخيرة. وتربط نيودلهي علاقات طويلة الأمد برابطة دول جنوب شرق آسيا، المعروفة اختصاراً بـ«آسيان» والمتكونة من 10 دول. غير أن الهند شرعت في تعزيز علاقاتها بهدوء مع جميع دول جنوب شرق آسيا على أساس ثنائي، وهو ما اتضح خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم إلى الهند هذا الأسبوع.
زيارة رئيس الوزراء الماليزي، التي تُعد الأولى لرئيس وزراء ماليزي منذ 6 سنوات، تهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين البلدين، من خلال تعزيز التعاون وتوسيع نطاقه ومجالاته. وفي الوقت الذي تتطلع فيه الهند إلى تعميق روابطها مع منطقة جنوب شرق آسيا، تسعى ماليزيا إلى الاستفادة من الفرص التي يتيحها الاقتصاد الهندي سريع النمو. وخلال هذه الزيارة، وقّع البلدان اتفاقية بشأن توظيف العمال الهنود، واتفقا على تعميق التعاون الدفاعي خلال الزيارة. ووفقاً لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، فإن الجانبين يؤمنان إيماناً راسخاً بأن «التعاون الاقتصادي ينطوي على كثير من الإمكانات والفرص».
ولا شك أن هذه الزيارة «رسمت اتجاهاً جديداً» للعلاقات الثنائية التي تتجه نحو شراكة سترتقي قريباً إلى «شراكة استراتيجية شاملة»، كما تؤكد مصادر موثوقة. فقد أعلنت الهند اعتزامها تصدير 200 ألف طن متري من الأرز الأبيض إلى ماليزيا، وسط حظر مستمر على تصدير الأرز. والجدير بالذكر هنا أن نيودلهي استثنت بعض دول المنطقة مثل سنغافورة من قرار حظر التصدير. كما سعى زعيما البلدين إلى توسيع نطاق التعاون ليشمل عدداً من المجالات الجديدة، إذ جرى الاتفاق في هذا الإطار على ضرورة زيادة التعاون في مجالات التكنولوجيا الجديدة، مثل أشباه الموصلات، والتكنولوجيا المالية، وتكنولوجيا الدفاع، والصناعة، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الكمية.
غير أن العلاقات بين ماليزيا والهند شهدت مداً وجزراً في السنوات الأخيرة. ففي عام 2019، تدهورت العلاقات بين البلدين، بعد أن أدلى رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد ببعض التصريحات التي أدت إلى فرض الهند قيوداً على استيراد زيت النخيل من ماليزيا.
ومنذ وصوله إلى السلطة، أكد رئيس الوزراء أنور إبراهيم، رغبته في إقامة علاقات جيدة مع الهند، التي تُعد واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم. وفضلاً عن ذلك، تمتلك الهند قاعدة استهلاكية كبيرة، وتُعد من كبار مصدّري المواد الغذائية مثل الأرز، وهو ما يجعل الدول الآسيوية تسعى لتعزيز علاقاتها معها. كما تعمل الهند على الدفع بعجلة التصنيع. ونتيجة لذلك، تسعى ماليزيا أيضاً إلى تمتين علاقاتها مع الهند. وفي أبريل من العام الماضي، شرع البلدان في التبادل التجاري بالعملتين المحليتين -- الروبية والرينجت -- ما يؤكد الرغبة المتزايدة في الدفع في اتجاه اندماج الاقتصادين، بما يعود عليهما بالنفع المتبادل.
وفي الأثناء، تزداد التجارة بين البلدين وتتعزز، إذ قامت الهند ليس فقط باستئناف وارداتها من زيت النخيل الماليزي ولكن بزيادته أيضا. وتبلغ قيمة التجارة بين البلدين نحو 20 مليار دولار، إذ تُعد ماليزيا ثالث أكبر شريك تجاري للهند في كتلة «آسيان» بعد إندونيسيا وسنغافورة. وبشكل عام، تُعد ماليزيا الشريك التجاري الـ16 للهند من حيث الأهمية، في حين تُعد الهند ضمن قائمة الشركاء التجاريين العشرة الأوائل بالنسبة لماليزيا. وهناك حوالي 70 شركة ماليزية تعمل في الهند حالياً، مقابل أكثر من 150 شركة هندية في ماليزيا. كما تربط بين البلدين علاقة قوية بين الشعبين، إذ إن 7% من سكان ماليزيا ينحدرون من أصول هندية. ومن التطورات المهمة أيضاً بالنسبة للهند على وجه التحديد، توقيع اتفاقية عمالة بين الجانبين، وهو ما يُبرز جهود الهند المتواصلة من أجل تحسين حياة عمالها وسعيها إلى خلق فرص جديدة.
وتهدف اتفاقية العمالة الموقعة بين البلدين إلى زيادة استقدام العمالة الهندية من ماليزيا، مع توفير الحماية القانونية للعمال الحاليين ومصالحهم. وقد وصفها مسؤول هندي بأنها «مهمة»، معتبراً أن من شأنها أن «تضمن ظروف عمل مناسبة» للعمال الهنود، وأن تفتح قطاعات يعمل فيها الهنود في ماليزيا. وهناك حالياً نحو 185 ألف عامل هندي في ماليزيا من العمال المهرة وغير المهرة.
ومما لا شك فيه أن مودي وأنور وضعا نموذجاً للمسار المستقبلي للعلاقات بين الهند وماليزيا، وكل ما تبقى الآن للبلدين هو ضمان أن ترقى العلاقات بينهما إلى مستوى إمكاناتها الحقيقية.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية نيودلهي