شهدت الحرب الروسية الأوكرانية خلال الآونة الأخيرة تحولات دراماتيكية كبيرة فاقمت تعقيد الصراع بين الطرفين، ليعكس ذلك الصورة المعقدة للمشهد السياسي والعسكري في المنطقة. وجاء في مقدمة هذه التحولات التوغل الأوكراني في مقاطعة كورسك الحدودية جنوب غربي روسيا، إذ أظهر هذا التوغل تصميم كييف على توسيع الخطوط الأمامية للصراع ونقله إلى مناطق أبعد داخل الأراضي الروسية.ومع تزايد استخدام الأسلحة المتطورة في الضربات المتبادلة وتصاعد وحشيتها، وصل التصعيد العسكري أيضاً بين الجانبين على كل الجبهات البالغ طولها أكثر من 1000 كيلومتر إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما أضاف بعداً جديداً للصراع.
وقد انعكس هذا التصعيد في حرب المسيّرات واستهداف البنية التحتية للطاقة، والمواصلات، والأهداف اللوجستية، والمدنية. وقد تحولت الحرب خلال الآونة الأخيرة إلى حرب موضعية مصحوبة بنمط من الاستنزاف المتبادل في قدرات الطرفين، وهذا ما أوقعهما في فخ الجمود العسكري، حيث أصبحت فرصة تحقيق نصر حاسم أمراً خارج نطاق الاحتمالات، خصوصاً أن الحرب لم تعد تحقق أهدافهما. وأصبح السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل يمكن أن تكون هذه التغيرات حافزاً للتسوية وإنهاء معاناة الملايين أم أنها ستؤدي فقط إلى طريق مسدود؟ وإذا كان التوغل الأوكراني في الأراضي الروسية قد ألقى بظلال قاتمة على فرص التسوية السياسية، فإن القيادة الأوكرانية -وفهمت عنها القيادة الروسية- تهدف من وراء هذا التوغل إلى دفع روسيا إلى طاولة المفاوضات. كما أن التصعيد العسكري والاستنزاف المتبادل وجمود جبهات القتال قد يقنع الطرفين بأن استمرار الحرب ليس في مصلحة إي منهما، وأنه آن الأوان لوقفها.
وفي الحقيقة، لم يعد هذا الأمر مستحيلاً، فلأول مرة منذ اندلاع الحرب في عام 2022، عرض الرئيس الأوكراني زيلينسكي في يوليو المنصرم أن تعقد قمة روسية أوكرانية من دون وضع أية شروط مسبقة، وهي خطوة جريئة تشير إلى رغبة أوكرانيا في إيجاد حل سلمي للصراع. ويبدو أن روسيا قد قبلت هذا العرض الذي قد يمثل بداية مسار جديد نحو التوصل إلى حل، وذلك ما جعل العرض الأوكراني خطوة ذات أهمية كبرى. ومن جهة أخرى، أشارت الصين لأول مرة إلى أنها ستؤدي دور الوسيط، وبصفتها قوة كبرى تمتلك نفوذاً قوياً في الساحة الدولية ولديها القدرة في التأثير على القرارات فإن دورها قد يكون حاسماً في تغيير مسار الأحداث، كما تتحرك قوى إقليمية أخرى فاعلة مثل دولة الإمارات لتفعيل جهود الوساطة بعد نجاحها في السابق في إنجاز العديد من الصفقات الناجحة بين الطرفين في مجال تبادل الأسرى والعمل الإنساني. وقد تضطر موسكو إلى النظر في حلول دبلوماسية بديلة نتيجة للاندفاع الأوكراني نحو الأراضي الروسية، كما قد تدرك روسيا أن مواصلة الحرب لن يودي إلا إلى خسائر أكبر.
وينبغي ألّا ننسى الدور المحوري الذي قد تؤدّيه نتائج الانتخابات الأميركية في توجّه الطرفين نحو تسوية النزاع بينهما، خصوصاً إذا انتهت الانتخابات بفوز دونالد ترامب، إذ قد يجبر ذلك كلا الطرفين على الخوض في مسار جديد للتسوية وحل النزاع سلميّاً. والخلاصة أنّ حل هذا النزاع يعتمد على قدرة الطرفين ورغبتهما في وضع العداء وراءهما وطي صفحة النزاع، إذْ لا يوجد حل آخر سوى اللجوء إلى الطرق السلمية، فالهجمات العسكرية والتصعيدات المستمرة لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من الخسائر وعرقلة مسيرة التنمية المستدامة. ولعل تغليب الحكمة يجد طريقه إلى عقول قادة روسيا وأوكرانيا، ليقتنعوا أن الحل السلمي هو الحل الأمثل والأكثر حكمة وإنسانية، لإنهاء هذا النزاع الدموي الذي أرهق البلدين.
شما أحمد القطبة*
*باحثة- إدارة الدراسات الاستراتيجية- مركز تريندز للبحوث والاستشارات