أدى حادث مقتل 3 فتيات صغيرات طعناً وإصابة آخرين مطلع الشهر الجاري في مدينة ليفربول بالمملكة المتحدة إلى اندلاع موجة عنف غير مسبوقة امتدت لاحقاً إلى مدن أخرى بعد انتشار معلومات على وسائل التواصل الاجتماعي ثبت لاحقاً عدم صحتها نسبت الجريمة للاجئ مسلم عمره17سنة، وشملت أعمال العنف تخريب منشآت عامة وخاصة، ومواجهات عنيفة مع الشرطة.
وهاجم العشرات مسجدين في شمال شرق إنجلترا مرددين شعارات عنصرية ضد المسلمين والمهاجرين، وحطم المتظاهرون واجهة أحد الفنادق التي تؤوي مهاجرين، وقد واجهت الحكومة البريطانية الأحداث بحزم، كما سارع الملك تشارلز الثالث المعروف بتسامحه الديني بتقديم العزاء لأسر الضحايا، والتأكيد على أن هذه الأعمال تعبر عن فئة محدودة، ودعا للاحترام والتفاهم المتبادلين، وكانت مسؤولية «اليمين المتطرف» عن الأحداث واضحة، خاصة أن بعض الجهات المتورطة فيها سبقت إدانتها في أعمال مماثلة، وقد جاءت الأحداث مفاجئة، وبدا أن هناك شبهة عمد فيها، أو على الأقل احتقان حاد غذته وسائل التواصل الاجتماعي بمعلومات مضللة.
وسبب المفاجأة أن الانتخابات التشريعية الأخيرة قد أفضت لفوز كاسح لحزب العمال بما يشير إلى مزاج يساري معتدل واضح أبعد ما يكون عن توجهات «اليمين المتطرف» الذي يبدو شبه مؤكد أن عناصره سارعت باغتنام فرصة تلك الجريمة النكراء كي ينفثوا غضبهم من تراجع مكانتهم السياسية كما أوضحت الانتخابات، ويثبتوا قدرتهم على التأثير على النحو الذي أثار المخاوف منذ العقد الماضي أو حتى قبله من صعود اليمين السياسي المتطرف أوروبياً وعالمياً.
فمنذ ذلك الوقت تبلور عدد من المؤشرات على صعود التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة، وتبدت هذه الظاهرة على نحو متزايد في معركة «البريكست»، ووصول ترامب للرئاسة، ووصول أحزاب يمينية متطرفة للحكم كما في المجر وإيطاليا، والصعود الواضح لهذه الأحزاب كما أظهرت الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، وانتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، وتصدر اليمين المتطرف للجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة، واحتمالات عودة ترامب للرئاسة.
والمشكلة أن هذه الأحزاب تتبنى توجهات من شأنها أن تعصف بالاستقرار وتماسك المجتمعات بسبب عدائها للمواطنين من أصول أجنبية وكذلك للهجرة، وخلطها بين الإرهاب والإسلام، والأدهى أنها لا تمانع في اللجوء إلى سلوكيات عنيفة منافية للقانون ومناقضة لأركان الديمقراطية الليبرالية، كما اتضح على سبيل المثال في اقتحام الكونجرس الأميركي في يناير2021 في محاولة لمنعه من تنصيب جو بايدن بعد فشل ترامب في تجديد ولايته، وتكرر هذا على نحو أفدح في البرازيل بعد هزيمة الرئيس اليميني بولسونارو في الانتخابات الرئاسية2022، وذلك باقتحام أنصاره مقر البرلمان والمحكمة العليا والقصر الرئاسي.
وها هي أعمال العنف الأخيرة في المملكة تعيد المخاوف من خطر هذه التيارات على الديمقراطية، ونذكر أن ترامب كان قد صرح في تجمع انتخابي في أوهايو في مارس الماضي بأن «حمام دم» للجميع سيكون أقل ما يحدث لو خسر الانتخابات، وأنه ليس متأكداً من إجراء انتخابات أخرى في البلاد لو لم يفز! وفي مايو رفض التعهد بقبول نتيجة الانتخابات ما لم تكن نزيهة، علماً بأنه اعتبر الانتخابات السابقة غير نزيهة، ومن هنا الخطر الحقيقي على الديمقراطية خاصة عندما يتمتع أنصار اليمين المتطرف بقوة نسبية.
*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة