قبل أيام قلائل حلّت ذكرى هجرة الرّسول صلوات الله عليه وسلم، ومع كل ذكرى من ذكريات الهجرة تتجدّد السّنون، وتنفتح الآمال، ويشرئب المسلمون إلى قادم أيامهم بنظرات مختلفة، وهي النّظرات التي ينبغي دوماً أن يرفدها الأمل، مادام القُنوطُ محرّماً، واليأس في ديننا منقصة.لا جرم أن النّبي الذي دشن تجربة الهجرة لم يكن غير إبراهيم عليه السلام، وهو يجأر بالهجرة إلى ربه. والهجرة لا تكون إلا بين بقعتين، بقعة الضّيق وبقعة الفرج، بقعة العسر وبقعة اليسر.

ولعل المهاجر وهو يهاجر كأنه يقتطع شيئاً من لحمه ودمه، فليس من السّهل تركُ الوطن الأول، ولعل هذا ما يفصح عنه نبينا الأكرم وهو يخاطب بلده الأول مكة وهو يستعدّ لخوض تجربة الهجرة: «والله إنّك لخير أرض الله وأحبّ أرض الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت». هاجر الرسول إلى المدينة، كما هاجر جدّه إبراهيم، وكانت هجرته إلى الله هجرة إلى العمل الصالح، وقد أثمر هذا العمل الصالح، الذي تفرّغ له الرسول في مكة، رجوعاً إلى موطنه الأول بالنّفع العميم، دخل أهلها في الشّريعة الإلهية، وتحققت مصالحة عميقة أنشأت استقراراً وأمناً أعطى المسلمين قوة دفع مذهلة ستكون لها آثارها الباهرة على القرون التالية.

ولعل هذا الحدْسَ هو الذي جعل عمر بن الخطاب يتخذ الهجرة بداية لتاريخ المسلمين، اعترافاً بما كان لهذا الحدث الفريد من أثر بالغ على مسيرة المسلمين الحضارية الكبرى. بعد الهجرة الكبرى أغلق باب الهجرة، إذ «لا هجرة بعد الفتح»، وأصبحت دلالات الهجرة دلالات رمزية أخلاقية، فأضحت الهجرة بذلك تجربة تغني الحقل الدلالي للحكمة، إذ أصبح المهاجر هو الذي يهجر ما نهى الله عنه، وهذه الهجرة لا تكون إلا بالنّزوع الدّائم إلى صالح الأعمال، ومن هنا تأبّدت الهجرة باعتبارها شوقاً مستمراً وإرادة مُتحفِّزَةً للعمل الصالح. ولدلالة ما نجد القرآن الكريم يحتفي بالعمل الصالح، ويُردّد ذكره في كل الكتاب، حتَّى لَكأن هوية المسلم وحقيقته وجوهره ليست سوى تجسيده العمل الصالح. فإذا كان ديكارت قد اعتبر وجود المرء رهينا بكونه كائناً مفكراً، فإن وجود المرء في التّصور القرآني رهين بعمله الصالح، إذ كثير من المستبصرين، كما بيّن القرآن الكريم، لم تنفعهم بصارتهم، لأنهم أخطأوا العمل الصّالح وتاهوا عنه.

العمل الصالحُ، بشرطيه؛ الإخلاص والصّواب، منتهى تجربة الهجرة، وهو أمر ذو دلالة كبرى في إطلاق الطّاقات التي تحبسها التّصورات الخاطئة والخيالات المعيقة، إذ الفلسفة القرآنية تؤمُّ غرضاً واحداً، وهو جعل الإنسان فعّالاً في الحياة، ومن هنا دعوتها إلى انصراف الشّخص عنْ عثراته، وألا يَثْبتَ عند أخطائه وهفواته، فما هو سوى إنسان طيني تجتذبه الأرض إليها، بل عليه دائماً أن يكون طُلَعة إلى عمل صالح يقوم به؛ من أوْبة يُجَدِّدها، إلى فكرة طيّبة ينشرها، إلى علم نافع يبثّه، إلى بسمة صادقة يُفرِح بها، إلى شقّ تمرة ينفع بها، وإلى ذكر يجلو به قلبه، إلى إصلاح يزيل به بيْناً، إلى عفو يدرأ به غلّاً، إلى قول حسن يزيل به سخيمة قلب، إلى هديّة يُنْبت بها حبّاً، وغير ذلك من الأعمال الصّالحة التي تُمْحَى بها الصَّحائفُ السّيئة وتُشرعُ بها أبواب الأيام الإيجابية.

إن مِلاكَ تجربة الهجرة هو السّعي الدؤوب إلى العمل الصالح، والتّشجيعُ عليها قدْحٌ لخيالنا المبدع، وتحرير لطاقاتنا العقلية البَانية. 

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.