أبدأ من أميركا، لأنها ترفع شعار نشر الديمقراطية في العالم، وتصر على ذلك وإن كان البديل فوضى عارمة تلعب في مياهها العكرة.

ولن أذهب بعيداً لإثبات ذلك، فقد صرح «مايك بومبيو» يوماً بذلك عن موقف أميركا عما يجري في أميركا اللاتينية البوابة الخلفية لاختباراتها في الديمقراطية، ما هو المطلوب هناك؟ صرح وزير الخارجية الأميركي السابق بأن الولايات المتحدة تخطط لتغيير السلطة ليس فقط في فنزويلا، ولكن أيضاً في نيكاراغوا وكوبا، وأكد أن واشنطن تنوي محاربة الأنظمة غير الديمقراطية في نيكاراغوا وكوبا، وقال: نحن ندرك أن حكومات هذه الدول تتعامل بوحشية مع شعبها، فهي تشكل تهديداً حقيقياً، تهديداً للأمن، وللفرد، وتحرمهم من حرياتهم الأساسية. أقول ماذا خلقت أميركا في كل من أفغانستان، الصومال، تونس، ليبيا، العراق، وسوريا، واليمن، أخيراً فلسطين وليس آخراً بحكم الواقع وليس بحكم الحق والباطل؟! هذه الدول التي وقعت في شراك الديمقراطية الموعودة من قبل أميركا، لم تتحسن ظروفهم الاقتصادية.

ويبدو من الحراك الاقتصادي الملحوظ في مختلف دول أميركا اللاتينية، وخاصة الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وفنزويلا وغيرها من الدول التي بدأت تلمع أضواء التنمية بعيداً عن ضغوطات الولايات المتحدة الأميركية، فهي مرة تريد إعادة فترة «نورييجا» في التعامل مع هذه الدول ومرة أخرى كما هي تخطط لبناء السور الأميركي العظيم حول المكسيك بعد أن حطمت برلين سورها وتوحدت الألمانيتين وتناثر عقد الاتحاد السوفييتي، وجعلت الصين من سورها مزاراً للسائحين ولم يعد ترساً لصد هجمات الأعداء.

لقد نشأت الديمقراطيات الغربية في ظروف تخصها وبما يتناسب مع متطلبات مرحلتها التاريخية، وأخذت من عمر الزمن قروناً عدة، وبعد سلسلة من الحروب الطاحنة بعضها شبيهة بالحروب القبلية كالحالة السويسرية. لو انتقلنا من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط المكلومة بـ«الربيع»، نرى أميركا أوباما التي ساندت الثورات الفوضوية فيها هي ذاتها التي مارست الدور نفسه في زمن ترامب.

ها هي السنوات الثماني العجاف قد حطمت آمال الديمقراطية المزعومة والمزيفة، لقد تخلت أميركا عن كل دعاة الديمقراطية التي استمعت إلى نداء «أكاديميات التغيير» في العالم العربي ولم تنقذها أميركا عندما سقطت في شر الإرهاب. فالغريب من أميركا، أنها عندما دبت الفوضى في البلدان التي أسهمت هي في إسقاط أنظمتها، انسحبت قواتها قبل أن تنعم تلك الدول بالأمن والأمان والاستقرار.

فها هو الرئيس العراقي يقر بأن عودة الإاستقرار إلى العراق بحاجة إلى فترة زمنية تقارب الأربعة عقود، فماذا عن سوريا وليبيا واليمن وأفغانستان والصومال وغيرها من البلدان التي تعاني من هشاشة الأوضاع؟

الدول الأخرى التي لعبت الفوضى في مفاصلها بحاجة إلى كم من العقود من أجل إعادة الإعمار والأمن والأمان والاستقرار إلى مجتمعاتها المنهارة، لا نتصور مدة تقل عن العقود العراقية الأربعة لماذا؟! لأن في تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية خير دليل على ما نذهب إليه، لأن الفارق الزمني بين التدمير والتعمير كبير. وما تم تدميره في تلك الحربين الكارثيتين أخذ من عمر الدول المتقدمة مع وجود صندوق مارشال الذي سرّع من وتيرة البناء لمستقبل أفضل عمرانياً وبشرياً، ومع ذلك أخذ ذلك العمران منهم قرابة ثلاثة عقود إن لم يكن أكثر قليلاً. ولكن ما يجري في أجزاء من العالم العربي أشد وأنكى مما حدث في الحربين العالميتين كيف؟!

وبدا واضحاً أن جروح تلك الحربين العالميتين تحولت إلى مشاريع تتغنى بالمستقبل والانبهار، إلا أن ذيول تلك الحرب في العالم العربي على الجرار. لم تبرد نار تلك الحروب حتى دخلت مباشرة في حرب أكبر منها ضد الإرهاب لا يموت إلا غيظاً وكمداً إذا ما نما إلى سمعه صوت للديمقراطية يثقب أذنيه، عندما تخلت أميركا عن الأكراد في سوريا فرح «الدواعش» بهذا القرار الذي أخرج قرابة ثلاثين ألفاً من الجيش الأميركي من هناك وتبقى 200 لحماية الديمقراطية الموهومة.

*كاتب إماراتي