بينما تتجه الولايات المتحدة نحو فترة ولاية ثانية لترامب، فإنها تُظهر قدرة دولة عظمى على تدمير نفسها. وقبل أيام تأرجحت فرنسا، وهي دولة عظمى أخرى، على شفا مماثل قبل انتخابات جولة الإعادة هذا الأسبوع، والتي كادت أن تسلم السيطرة على الحكومة لحزب ذي جذور تاريخية مؤيدة للنازية وأجندة معاصرة لا تزال قومية وعنصرية، لكن النتائج النهائية رجحت تيار اليسار.
ومع ذلك، فإن بريطانيا هي التي وضعت النموذج الحديث للتضحية بالنفس من قبل ديمقراطية قديمة لامعة، والتي، بتبنيها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) قبل ثماني سنوات، ألقت بنفسها في معضلة اقتصادية لا تزال تجد صعوبة بالغة في الخروج منها.
ويوم الخميس الماضي، عاقب الناخبون البريطانيون بأغلبية ساحقة حزب «المحافظين»، الذي نفذ بريكست في عام 2016. وفي واحدة من أكثر الانتخابات العامة غير المتوازنة في البلاد، فاز حزب «العمال» بأكثر من ثلاثة أضعاف عدد المقاعد التي فاز بها «المحافظون» في البرلمان. وبعد 14 عاماً في المعارضة، عاد حزب «العمال» إلى السلطة يوم الجمعة الماضية وعُيّن زعيمه «كير ستارمر» رئيساً للوزراء.
يستحق «المحافظون» بجدارة النفي طويل الأمد بسبب كارثة بريكست، والتي، وفقاً لتقرير جديد صادر عن مؤسسة «كامبريدج إيكونوميتريكس» البحثية، ستستنزف ما يقرب من 400 مليار دولار من الاقتصاد البريطاني بحلول عام 2035 - وهو مبلغ كبير في بلد يقل إنتاجه السنوي عن إنتاج ولاية كاليفورنيا. لم تكن الهزيمة الساحقة التي مُني بها «المحافظون» في بريطانيا تتعلق فقط ببريكست.
وبعد 14 عاماً في السلطة، ترك «المحافظون» العديد من الأسباب الوجيهة للتصويت ضدهم، حتى إنه من العدل أن نتساءل ما إذا كان الحزب، الذي تأسس عام 1834، سيتمكن من البقاء كقوة سياسية كبرى. في عهد «المحافظين»، شغل مقر إقامة رئيس الوزراء في 10 داونينج ستريت في لندن محاربة الثقافة (تيريزا ماي)، التي خلفها المتبجح (بوريس جونسون)، الذي أنجب جاهلة اقتصادياً (ليز تروس). وخلف تروس، التي استمرت فترة ولايتها سبعة أسابيع، ريشي سوناك، الذي لم تتمكن سياساته المتعثرة من عكس الضرر الذي أحدثه أسلافه.
وسط ركود تاريخي في الأجور، كان العامل البريطاني العادي اليوم يكسب ما يقرب من 4600 دولار سنوياً إذا نما أجره بما يتماشى مع الدخل الأميركي أو الألماني منذ عام 2010، وفقاً لمؤسسة «ريزوليوشن»، وهي مؤسسة بحثية في لندن. في عالم عقلاني، كانت الضائقة التي تعاني منها بريطانيا لتترك تأثيراً عقابياً على الدول الأخرى، وتثنيها عن خوض مجازفات متهورة، كما فعل رئيس الوزراء «المحافظ» ديفيد كاميرون بالتحريض على الاستفتاء على بريكست في المقام الأول، واثقاً من أنه لن يتم تمريره. لكن العالم ليس عقلانياً، كما أثبت الرئيس إيمانويل ماكرون الشهر الماضي عندما دعا إلى إجراء انتخابات مبكرة للجمعية الوطنية الفرنسية بعد أن مُنيت كتلته الوسطية بهزيمة ساحقة في انتخابات البرلمان الأوروبي على يد حزب «التجمع الوطني» الشعبوي الذي يهاجم المهاجرين.
وكما هو الحال مع مقامرة كاميرون المتهورة بشأن التصويت لصالح بريكست، والتي كانت تهدف إلى إسكات هؤلاء الذين يعطون أولوية لمصالح ورفاهية بريطانيا قبل أي شيء والمنتقدين للاتحاد الأوروبي في حزبه، كانت حماقة ماكرون بمثابة سوء تقدير مذهل.
وفي كلتا الحالتين، كانت الغطرسة هي السائدة. أصبح الناخبون الفرنسيون الآن في مزاج انتقامي، ويستعدون لإطلاق العنان لغضبهم على ماكرون، تماماً كما فعل البريطانيون يوم الخميس بشأن سوناك، إذ يُنظر إلى كل زعيم على أنه بطل نخبوي للأغنياء. وكتبت صحيفة «الجارديان» أن كلا البلدين غارقان في «موجة عارمة من السخط ضد الحكومات التي يقودها رجال في الأربعينيات من العمر يرتدون ملابس أنيقة، ويُنظر إليهم بأغلبية ساحقة على أنهم سامون وبعيدون عن التواصل».
والفارق الحاسم أن الناخبين البريطانيين الغاضبين رفضوا يوم الخميس سوء الإدارة الشعبوية، واتجه الفرنسيون الغاضبون يوم الأحد نحو اليسار بعيداً عن أقصى اليمين. وإن لم فعلوا ذلك، لكان حزب «التجمع الوطني» اليميني المتشدد وصل إلى السلطة. وتجربة بريطانيا كانت مدفوعة جزئياً باستياء مماثل بشأن الهجرة وأحلام مماثلة لإحياء الماضي المتألق. وكما هو الحال مع أنصار بريكست من «المحافظين»، يَعِد «التجمع الوطني» بتحرير فرنسا من قواعد الاتحاد الأوروبي وانتهاكه المفترض للسيادة.
لكن زعيمة «التجمع الوطني»، مارين لوبان، التي احتفلت ذات يوم ببريكست باعتباره «انتصاراً للحرية» التي حررت بريطانيا مما أسمته «العبودية»، لم تعد تتحدث عن أن فرنسا ستحذو حذو بريطانيا في «الخروج من الاتحاد الأوروبي»، ناهيك عن الخروج من العملة المشتركة لمنطقة اليورو. فقد تعلمت لوبان الكثير من فشل بريكست.
وبدلاً من ذلك، وعدت هي وتلميذها «جوردان بارديلا»، الفتى المعجزة البالغ من العمر 28 عاماً والذي قد يصبح رئيساً للوزراء لو انتصر الحزب يوم الأحد الماضي، بأجندة «فرنسا أولاً»، التي من شأنها تخريب الاتحاد الأوروبي من الداخل، لكن هذا لم يحدث، ومن شأن برنامجهما أن يقوض مؤسسة بالغة الأهمية للسلام والرخاء الذي ساد القارة منذ الحرب العالمية الثانية. وليس هناك من الأسباب ما يجعلنا نتوقع أن تؤدي نتائج مثل هذه التجربة الانعزالية إلى ترك فرنسا في مكان أكثر سعادة مما وجدته بريطانيا نفسها. ولكن فرنسا، مثل بريطانيا، ربما تكون عازمة على تعلم هذا الدرس بالطريقة الصعبة.
لي هوكستادير*
*كاتب عمود متخصص في الشؤون الأوروبية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»