قلّت كثيراً أعداد الذين يجادلون في ضرورات إنهاء الحرب على قطاع غزة. ويرجع ارتفاع صوت الذين يريدون العودة للسلم إلى الأهوال التي نزلت بالقطاع وسكّانه وعمرانه. لكن ليس هذا فقط، مع أنه سببٌ كافٍ وزيادة، فهم ينبّهون إلى التغير الواضح في المواقف الدولية لجهة السعي إلى «حلّ الدولتين»، ولجهة خفض التوتر في الشرق الأوسط. وفي المسألة الأولى فإنّ وقف القتال يعني إنقاذاً للأرواح، ومساعي لإعادة الإعمار، وتفكيراً بمستقبل القطاع لجهة إعادة الوصل مع الضفة الغربية. والأهمّ إحقاق تصور الحلّ من حيث وضع القرارات الدولية والمبادرة العربية للسلام موضع الاهتمام والتنفيذ.
وهذه المرة يحظى ذلك بدعم الدول الكبرى، بعد أن كان الاهتمام قاصراً على دول الجامعة العربية. يقول المشككون إنّ الحلّ الدوليَّ أو الأميركي فشِل بعد اتفاقية أوسلو عام 1993. وكانت مساعي إفشاله مشتركة بين جهاتٍ في إسرائيل وفي الجانب العربي والفصائل الفلسطينية.
وهذا صحيح إلى حدٍ ما، لكنْ من جهةٍ ثانية أنه بعد عام 1995، ورغم استمرار المفاوضات واستمرار الانتفاضات، فإنّ الأمور بالنسبة للفلسطينيين كانت تزداد سوءاً، وبخاصةٍ بعد انفصال «حماس» بغزة عام 2007. إذ رغم جهود إعادة التوحيد من جانب المملكة ومن جانب مصر، فإنّ تلك الجهود لم تثمر بسبب الإصرار على الانقسام، وبسبب المصلحة الإسرائيلية في ذلك. وقد جرت أربع حروبٍ بين إسرائيل و«حماس» في القطاع، بيد أنّ أفظعها الحرب الجارية حالياً.
وإذا أمكن القول إن القطاع صمد، لكنّ القول صحيحٌ أيضاً أنّ مشروع التحرير لم يتقدم، ووصل الجميع إلى الحائط المسدود. المستوطنات تتوسع وأعدادها تزداد، ويريد المتطرفون إلغاء الوجود الفلسطيني، فلو لم يكن في السعي لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة غير وقف بناء المستوطنات، واحتفاظ الفلسطينيين ببعض أرضهم، وعودة القطاع إلى الحياة، فإنّ «مقدمات» الدولة هذه كافية!
إنّ تحدّي السلم قد لا يقلُّ صعوبةً عن تحدي النزاع، فالتوحيد بعد طول مدة الانفصال صعب، والصعب على وجه الخصوص الآن أنّ الرأي العام الإسرائيلي قد مال نحو اليمين ضد الدولة الفلسطينية. ولا ندري إذا كانت الإدارة الأميركية القادمة ستتحمس للدولة الفلسطينية مثل الإدارة الحالية. لكنّ الرأي العام العالمي قوي وقد يكون قاهراً أو مؤثراً بالحد الأدنى. قلتُ إنّ وقف الحرب يسهم في تخفيف التوتر في الشرق الأوسط. فـ «حزب الله» في لبنان سيخسر ذرائعَه وسيوقف الاشتباك على الحدود، وكذلك «الحوثيون» في البحر الأحمر، وسيزداد الاهتمام بالأزمات في ليبيا والسودان.
وقد تعود المفاوضات بوساطة الأميركيين على الحدود البرية اللبنانية مع إسرائيل بعد أن سُوّيت مشكلات الحدود البحرية. وسيكون العرب أكثر قدرةً على الحراك باتجاه حلولٍ للأزمات التي تُعاني منها عدة دول في المنطقة. وفي زمن السلم أو التهدئة سيكون نصيب العرب من الفعالية أكبر إذا تراجع استشراس الميليشيات المسلحة في سائر الأنحاء. يقال إنّ العقل والمصلحة لا يلتقيان دائماً، أما في حالتنا فإنّ الأمرين مطلوبان، بل ضروريٌّ اعتبارُهُما معاً. ذلك أنّ العقل يقتضينا النظرَ في المصالح، وهو الذي ما كان ممكناً في أزمنة الفتنة والاضطراب.