ليس عالَماً واحداً، ولن يكون كذلك. هذه خلاصة ما تعلمه صديقي كمهاجر. منذ فترة، وهو يعيش حياته مقسومةً بين عالَمين، الشرق الأوسط (وعالمه العربي تحديداً)، حيث وُلد وتشكّلت شخصيته بكل تفاصيلها الوجدانية والثقافية، وأوروبا حيث هاجر قبل حوالي اثني عشر عاماً من الآن وحاول التكيف والإندماج.

لم يكن ممكناً لأي اندماج أن يذيبه في موطنه الجديد، ولا أن يلغي تلك التفاصيل التي شكلته وصاغته على ما هو عليه، كما لم يكن ممكناً أن يعود إلى موطنه الأصلي كما غادره، إذ هناك الكثير الذي تغير في داخله أيضاً.

واليوم، يراقب صديقي صعودَ تيار أقصى اليمين في أوروبا. لديهم حساسية من وجوده، هو وأمثاله، فكلهم ضِمن كفة واحدة في حسابات أقصى اليمين. الجنسية لا تعني أكثر من حقوق يمكن سحبها أو تقزيمها على مقاس ذلك المزاج اليميني الذي حملته صناديق الاقتراع إلى مواقع التشريع وتعديل القوانين وإعادة ضبط الحقوق وتوزيعها. يَغضبُ أحياناً، فالحلم «الديمقراطي» يتلاشى، وجنة «العدالة» تتضاءل مساحاتُها يومياً، وحين يتأمل بعد حين وبعقل بارد، يضع نفسَه مكان ذلك الأوروبي «الغاضب» أيضاً وهو يتخيل بلادَه تتعرض لاجتياح تشوهه فوضى لا تناسق ثقافي واضح فيها، وكثير من التشوهات التي كانت سبباً أساسياً في قدوم هؤلاء، يحملون الأمنيات بالحرية لكن تخنقهم رواسب الاستبداد في دواخلهم. ملايين اليوروهات في بلدان الاتحاد الأوروبي تم هدرها على برامج «الاندماج»، لكنها فشلت في إقناع المهاجرين من بلاد العرب بأن يضبطوا حرياتِهم على الوعي، فكانت النتيجة أن العربي – عموماً - يحتقر مَن لا يشبهه أو يتماشى مع منظومة القيم التي لديه، لكنه ينتخب في صناديق الاقتراع كل الأحزاب الليبرالية التي تبالغ في حقوق الإنسان والحيوان، لا إيماناً بالحقوق، بل طمعاً في برامج المعونات الاجتماعية التي يفتحها هؤلاء بالكامل للجميع. العربي لم يندمج ولا يندمج، لأن فكرة «احترام القانون» تتطلب وعياً مجتمعياً، لكننا كعرب تعلمنا أن نخاف القانون لا أن نحترمه.

الشرطي شأنه بالنسبة لنا شأن الكاميرا الأمنية التي تمثل السلطة، فذلك فقط ما يجعلنا نلتزم بالسرعة وخطوط المشاة وألوان الإشارات والانعطافات المضبوطة على التعليمات.. وحين يختفي الشرطي والكاميرا نمارس هوايتَنا بشطارة التحايل على القانون. لقد حملْنا كلَّ أثقالنا التاريخية على أكتافنا وهاجرنا لنلقيها في تلك المَواطن الجديدة والمتخففة من التاريخ الثقيل. وبشكل أو بآخر، قمنا نحن بانتخاب اليمين الذي لا يريدنا في بلادهم. بينما في بلادنا ما نزال نرفض «الآخر»، حتى لو كان من بيننا.. أي اختلاف نرفضه، ونقيم الحروب ونصنع الأزمات على وهم «الاختلاف».

إننا نحمل إرثاً ثقيلاً من مخلَّفات التاريخ الذي نتوارثه جيلاً بعد جيل، ويتراكم في أثقاله على أكتافنا فلا نتقدم لأن خطواتنا ثقيلة. عالمنا العربي، بشعوبه وثقافاته وتعدديته، يحتاج خلاصاً على دفعة واحدة، ولن يتحقق هذا الخلاص إلا بالتخفف من عقدة الخيبات التاريخية، وهذه الخيبات لا يمكن أن تنتهي من دون أن يقرر العربي، ولو لمرة واحدة، أن لا ينظر خلفه وهو يمشي.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا