تُقدِّم دولة الإمارات نموذجاً ملهماً للقدرة على ترجمة المبادئ والركائز المعلنة إلى واقع ملموس، على نحو يتحقق فيه التطابق التام بين القول والفعل، وهو ما يفسِّر الاحترام والثقة والمكانة التي أرستها الدولة لنفسها في المنطقة والعالم.

ويُمثل نجاح الدولة في عقد صفقة لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، عاد بموجبها 180 عسكريّاً من الجانبين إلى ديارهم وأهليهم، شاهداً جديداً على اتساق ما تعلنه الدولة من مبادئ مع ممارساتها السياسية ونهجها في التعاطي مع مختلف القضايا المعقدة حول العالم. وتنطلق الوساطة من أحد مبادئ «وثيقة الخمسين» التي تمثل «مرجعاً لجميع مؤسسات الدولة» حتى احتفالها بمئويتها عام 2071.

وينص هذا المبدأ على أن «الدعوة للسلم والسلام والمفاوضات والحوار لحل كافة الخلافات هو الأساس في السياسة الخارجية لدولة الإمارات، والسعي مع الشركاء الإقليميين والأصدقاء العالميين لترسيخ السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي، يعتبر محركاً أساسياً للسياسة الخارجية».

ويعني ما سبق أن جهود دولة الإمارات في هذا الصدد ذات طبيعة مؤسسية، وذات مرجعية ثابتة في فكر القيادة الإماراتية منذ تأسيس الدولة. لم تكن صفقة تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، التي أُنجزت الثلاثاء 25 يونيو 2024، هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها أربع صفقات مماثلة منذ مطلع العام الحالي، أولاها في 3 يناير، والثانية في 30 يناير، والثالثة في 8 فبراير، والرابعة في 31 مايو، بما تستلزمه المفاوضات المتعلقة بإطلاق سراح الأسرى من مهارات وقدرات دبلوماسية رفيعة، إلى جانب ما يعنيه توالي صفقات الإفراج من الثقة المطلقة لدى طرفي الصراع في الجهة التي اختارت تحمُّل مسؤولية الوساطة. وكان النهج الإماراتي واضحاً منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في التزام الحياد بين طرفي الحرب، والتصدي الحازم للضغوط التي حاولت دفع الدولة إلى الاصطفاف في أحد الجانبين، وهو ما وضع أساساً راسخاً لدورها الحالي.

وعبَّر معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، عن الموقف الإماراتي في أبريل 2022، بعد وقت قليل من اندلاع الحرب، قائلاً إن سياسة دولة الإمارات «تحكمها المبادئ والقيم ولا تنجرُّ وراء المزايدات والانفعالات وسياسة المحاور، هذا ما ينطبق على موقفنا من الحرب في أوكرانيا والذي يستند إلى القانون الدولي ورفض استخدام القوة واحترام سيادة الدول وحل الخلافات عبر المسار السياسي والدبلوماسي».

ويزيد من أهمية صفقات التبادل التي أنجزتها الإمارات منذ بداية العام الحالي، أنها تأتي في ظل تصعيد سياسي وعسكري في الحرب المتواصلة منذ أكثر من عامين، وتصاعد للتوقعات التي لا ترى نهاية قريبة لها، وتُرجِّح استمرارها إلى ما بعد عام 2025، مما يفاقم تكلفتَها الاقتصادية والإنسانية، ويجعل الحاجة ملحة إلى التدخل من أجل تخفيف تبعاتها الفادحة، وتقليل المعاناة على ملايين البشر الذين يتحملون ثمناً باهظاً لاستمرار الحرب.

وقد ظهر تقدير الجانبين الروسي والأوكراني واضحاً للدور الإمارات في إنجاح صفقات تبادل الأسرى المتتالية، ففي كلمته مساء 25 يونيو 2024، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينيسكي: «اليوم، هناك 90 عائلة أوكرانية أخرى سعيدة. عاد 90 جندياً من الأَسر.. شكراً لدولة الإمارات العربية المتحدة على المساعدة في جعل ما حدث اليوم ممكناً».

وفي بداية فبراير الماضي، وإثر الصفقة الثانية لتبادل الأسرى، قال رئيس وكالة تنمية التجارة الدولية الروسية إن «الإدارة الروسية تقدّر بشكل كبير المجهود الإماراتي في تحقيق السلام عالمياً».

وفي تعليق مهم على صفقة التبادل الأخيرة، ذهب المحلل السياسي الروسي أندريه أونتكوف إلى أن «نجاح الوساطة الدبلوماسية الإماراتية يعطي أملاً كبيراً في المستوى السياسي لحل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا»، مضيفاً أن «دولة الإمارات طرف أصيل في الدفع باتجاه عملية السلام باعتبارها وسيطاً مقبولاً من الجميع». ويؤكد هذا التقييم للدور الإماراتي صحةَ النهج الذي اختارته الدولة، والنتائج الإيجابية لدفاعها الحاسم والثابت عن إنهاء الصراعات من خلال الحوار والحلول السياسية، في كل مكان من العالم.

*صادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.