عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإعلان استسلام ألمانيا الهتلرية بانتصار الحلفاء (الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي)، عقد قادة الدول الثلاث، الأميركي روزفلت، والسوفييتي ستالين، والبريطاني تشرشل، لقاءً في يالطه. خلال هذا اللقاء قال تشرشل لزميليه: إن التاريخ سوف ينصفكما. فتساءل روزفلت: كيف؟ أجاب تشرشل: لأنني أنا سأكتب التاريخ. وبالفعل لم تكد تمضي أربع سنوات على انتهاء الحرب حتى نشر تشرشل كتاباً يقع في 600 صفحة، وبأسلوب جذاب عنوانه «تجمّع العاصفة»، نال على أثره جائزة نوبل. كان تشرشل يُمني النفس بالحصول على جائزة نوبل للسلام منذ سنوات عديدة، لكنه مُنح على كتابه الموسوعي عن الحرب جائزة نوبل للآداب.
المهم في الأمر هو أنه في سرده الجذاب لوقائع الحرب العالمية الثانية وتحوّلاتها والمراحل التي مرّت بها، بلغته الإنجليزية الراقية، تمكّن من تمرير الوعد الذي قطعه على نفسه للرئيسين روزفلت وستالين. حاول تشرشل في عمله الأدبي التأريخي للحرب تقليد المؤرخ، بل أب التأريخ، هيرودوس في روايته للحرب اليونانية الفارسية التي عاش ورافق كل المراحل التي مرّت بها. وعلى هذا الخط أيضاً سار كاتب سيرة حياة الرئيس الأوكراني فولودير زيلنسكي الصحفي الإنجليزي سايمون شولتر، وذلك في ضوء وقائع وتحولات الحرب الروسية الأوكرانية التي وضعت العالمَ كلَّه على شفا حفرة من حرب نووية قد لا تُبقي ولا تذر.
مؤرخو هذه الحرب يتجاهلون الخطر الذي يهدّد الإنسانية. وهم في ذلك يقلّدون المؤرخين السابقين الذين اهتموا بما بعد الحرب العالمية الثانية وتجاهلوا مساوئ ما قبلها، بما في ذلك الاندفاع الأعمى وراء حركات التطرف التي عرفتها دول أوروبية عديدة، وليس ألمانيا (النازية) وإيطاليا (الفاشية) فقط. ويعترف المؤرخ البريطاني وأستاذ التاريخ في جامعة أوكسفورد بأنه «كان لا بد أن تمرّ ثلاثة عقود على انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى يمكن كتابة تاريخ الحرب بواقعية علمية وشمولية مترفّعة عن الانحيازات الوطنية والعواطف الخاصة».
هناك وثائق سرية لا يُكشف عنها إلا بعد مرور عقود من الزمن. وكثيراً ما يعتمد على مصادر للتاريخ ثم يتبيّن أن هذه المصادر تفتقر إلى الصدقية والموضوعية، أو إلى الحياد العلمي.
وما لم تُرفع السرية عن الوثائق الرسمية (بعد مرور الوقت)، فإن الكثير من الأحكام تبقى في دائرة الطعن بصدقيتها وبموضوعيتها العلميتين. وينطبق هذا الأمر على تأريخ حتى الحروب والصراعات المحلية أو الإقليمية.
وفي الواقع، فإن بعض القرارات والمواقف التي اتُخذت أثناء الحرب العالمية الثانية لم يُكشف عن خلفية الأسباب التي أملت اتخاذَها إلا في عام 1974. ولذا فكل كتب التاريخ التي صدرت قبل ذلك معرّضة للطعن في صدقيتها أو في شمولية تقييمها وقائع الحرب ومجرياتها.. وبالتالي للنتائج التي أسفرت عنها الحرب، والتي لا تزال ترسم حتى اليوم صورة عالمنا المعاصر. في عام 1989 نشر أستاذ العلوم السياسية الأميركي فرنسيس فوكوياما نظريتَه حول «نهاية التاريخ».
في ذلك العام سقط الاتحاد السوفييتي وتمزّق إرباً. وفي ذلك العام أيضاً أعلنت الرأسمالية الغربية، ممثلةً بالولايات المتحدة انتصارَها القيمي. صوّر فوكوياما هذا الانتصار على أنه انتصار مطلق، فأعلن نهاية التاريخ، ليكتشف أن التاريخ فتح صفحةً جديدة مع الصين. وتستعد الهند الآن لفتح صفحة جديدة أيضاً. فالتاريخ ليس بضاعة قديمة عفا عليها الزمن.. إنه صناعة المستقبل. *كاتب لبناني