أمضيت فترات كبيرة من حياتي المهنية في مناطق الحرب أو على أطرافها، ولكن لا شيء جعلني أتهيأ بشكل كامل لاتساع وعمق المعاناة الإنسانية التي شهدتها خلال السنوات الثلاث التي قضيتها كمنسق للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة.
لقد قضيت الأشهر الأولى من ولايتي وسط الصراع الدائر في منطقة تيجراي في إثيوبيا، والجهود المبذولة للحصول على أكثر من قدر ضئيل من الغذاء وغيره من المساعدات لنحو خمسة ملايين شخص انقطعوا عن العالم الخارجي.
وفي فبراير 2022، بدأت الحرب في أوكرانيا ما أجبر ملايين الأشخاص على ترك منازلهم؛ بالإضافة إلى الهجمات المستمرة على المباني السكنية والمدارس والمستشفيات والبنية التحتية للطاقة والتي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وشعر العالم بالزلزال مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتفاقم التوترات الجيوسياسية.
وبعد مرور أكثر من عام بقليل، اندلع الصراع المروع في السودان، وقُتل الآلاف، وشُرد الملايين، وظهر العنف على أساس عرقي مرة أخرى مع اقتراب المجاعة.
ثم جاءت هجمات «حماس» في السابع من أكتوبر على إسرائيل، وما تلاها من قصف لغزة، والذي حول القطاع الفقير الخاضع للحصار إلى جحيم على الأرض. تقول وزارة الصحة في غزة إن أكثر من 37000 شخص قتلوا في القطاع، وتم إجبار جميع السكان تقريباً على ترك منازلهم عدة مرات. لقد أصبح توصيل المساعدات الإنسانية إلى السكان الذين يقفون على حافة المجاعة أمراً شبه مستحيل، في حين قُتل العاملون في المجال الإنساني والأمم المتحدة بأعداد غير معقولة.
ويعاني ملايين آخرون في مختلف أنحاء العالم من صراعات طال أمدها ولم يتم حلها ولم تعد تتصدر عناوين الأخبار ــ في سوريا، واليمن، وميانمار، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومنطقة الساحل، على سبيل المثال لا الحصر.
وهذا هو على وجه التحديد الوضع الذي كان من المفترض أن يمنعه النظام العالمي الحديث، الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي تجسد بطموح صادق في ميثاق الأمم المتحدة. إن معاناة الملايين من البشر دليل واضح على فشلنا.
في جوهر الأمر، لا أعتقد أن هذا الفشل يقع على عاتق الأمم المتحدة. على أي حال، لا تكون قيمة الهيئة إلا بقدر الالتزام والجهد والموارد التي يبذلها أعضاؤها. وفي اعتقادي أن هذا يشكل فشلاً لزعماء العالم: فهم يخذلون الإنسانية من خلال خرق الاتفاق بين الناس العاديين وأولئك المنوط بهم السلطة.
ويتجلى هذا بشكل أكثر وضوحاً في الزعماء الذين، يتجاهلون عواقب تتحملها شعوبهم والآخرون، ويلجأون بلا هوادة إلى حمل السلاح بدلاً من البحث عن حلول دبلوماسية. والأمر فظيع بشكل خاص هو خذلان الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، الهيئة التابعة للأمم المتحدة المكلفة بصيانة السلام والأمن الدوليين، وعدم قيامهم بواجباتهم الرسمية بهذه الطريقة.
ويتجلى فشل أيضاً في الدعم غير المشروط تقريباً الذي تقدمه بعض الدول لحلفائها في زمن الحرب، على الرغم من الأدلة الوفيرة على أنه يسمح بمعاناة واسعة النطاق وانتهاكات محتملة للقانون الإنساني الدولي. ويتجلى ذلك بشكل خاص في غزة، حيث تتعرض حياة المدنيين والبنية التحتية لضرر مفرط. وبالإمكان رؤية ذلك أيضاً في عرقلة وتسييس المساعدات الإنسانية، في حين ينتشر الجوع والمرض ويعاني العاملون في المجال الإنساني والعاملون في مجال الرعاية الصحية والصحفيون من خسائر غير مقبولة. وما علينا إلا أن ننظر إلى الأسلحة التي استمرت في التدفق إلى إسرائيل من الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى، على الرغم من التأثير المروع الواضح للحرب على المدنيين.
وتتجلى هذه الإخفاقات بشكل خاص في حقيقة مفادها أن التمويل الدولي للإغاثة الإنسانية لا يصل كل عام إلى المبلغ المطلوب، في حين يتزايد الإنفاق العسكري للدول. في عام 2023، ارتفع الإنفاق العسكري الجماعي في العالم إلى 2.4 تريليون دولار، في حين جمعت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الأخرى 24 مليار دولار فقط للمساعدات الإنسانية، أي 43% فقط من المبلغ المطلوب لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحا لمئات الملايين من البشر.
ومع ذلك، لا يزال لديّ أمل.
وعلى الرغم من أوجه القصور العديدة التي تعيب قيادة العالم، فقد رأيت أيضاً أدلة وافرة في السنوات الثلاث الماضية، وطوال مسيرتي المهنية، على أن الإنسانية والتعاطف وإصرار الناس ورغبتهم في مساعدة بعضهم بعضاً لا تزال متقدة بقوة. لقد رأيت ذلك عبر العديد من الأزمات العالمية، في المجتمعات المضيفة التي تتقاسم القليل مما لديها مع الأشخاص الفارين من الصراع والمصاعب، غالبا لأشهر وسنوات متواصلة؛ وفي التعبئة التلقائية للمجموعات المحلية والوطنية التي تدعم مجتمعاتها في أوقات الأزمات، مثل غرف الاستجابة للطوارئ التي يقودها الشباب في السودان والتي احتشدت لتقديم الدعم الطبي والهندسي وغيره من أشكال الدعم في حالات الطوارئ؛ وفي الجهود الشجاعة التي يبذلها العاملون في المجال الإنساني في جميع أنحاء العالم.
طوال سنوات خدمتي السبع مع الأمم المتحدة، رأيت القدرة الفريدة وروح العمل التي تتمتع بها هذه الهيئة وموظفوها لتولي وإدارة المواقف الصعبة بشكل لا يصدق، ولتأمين الحلول للمشاكل التي تبدو مستعصية، عندما يتم تمكينهم لنفعل ذلك. وكانت هذه الروح هي التي قادت جهودي في عام 2022 لتأمين مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب، وهي اتفاقية توسطت فيها الأمم المتحدة وتركيا والتي سمحت بتصدير كميات هائلة من الحبوب أخيراً من أوكرانيا بعد أشهر من حظرها. وقد أظهر هذا أنه حتى الأعداء المريرون المنخرطون في الصراع يمكنهم الاتفاق على تخفيف تأثير الحرب على الأمن الغذائي للملايين في جميع أنحاء العالم.
لقد قادني ذلك إلى الانخراط في مفاوضات صعبة مع الرئيس بشار الأسد للسماح بوصول المساعدات إلى شمال غرب سوريا في أعقاب الزلازل المدمرة في فبراير 2023، والضغط من أجل موافقة الجنرالات المتحاربين في السودان على إعلان الالتزام بحماية المدنيين في السودان، مما يمهد في نهاية المطاف الطريق لبدء تدفق بعض المساعدات مرة أخرى إلى البلاد. كل هذا يوضح قوة ما نسميه الآن الوساطة الإنسانية.
وإذا أردنا أن يكون لدينا أي أمل في مستقبل أفضل وأكثر سلاماً وإنصافاً، فإننا نحتاج إلى زعماء العالم الذين يوحدوننا، بدلاً من الاستمرار في البحث عن سبل لتقسيمنا. نحن بحاجة إلى قادة قادرين وراغبين في تسخير إنسانيتنا الجماعية، وإعادة تنشيط ثقتنا في قوانيننا وأعرافنا ومؤسساتنا المشتركة، والذين لديهم الرؤية والدافع لتحقيق الأمل والطموح الهائلين في ميثاق الأمم المتحدة.
وبينما أستعد للتنحي بعد ثلاث سنوات من العمل كرئيس للجهود الإنسانية للأمم المتحدة، فإن هذا هو ندائي للقادة نيابة عن المجتمع الإنساني وجميع الأشخاص الذين نخدمهم: ضعوا المصالح الضيقة والانقسام والصراع جانباً. فقد حان الوقت لإعادة الإنسانية والتعاون وآمال الناس في عالم أفضل وأكثر مساواة إلى قلب العلاقات الدولية.
*وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»