في الترجمات الشهيرة للبخاري في جامعه الصحيح، نجد ترجمة تقول «لا حكيم إلا ذو تجربة»، وهو قول منسوب لمعاوية، رضي الله عنه، وهذا الربط بين الحكمة والتجربة يستدعي الوقوف عنده، خاصة في أيامنا هذه.
للتّجربة دلالات متعددة، وهي أقرب هاهنا إلى الخبرة التي يكتسبها المرء في مسيرة حياته، وهو يمر بأحداث مختلفة يتقلّب فيها بين النّعيم والشّقاء، بين الحبّ والكره، بين الإخلاص والغدر، بين الصدق والكذب، فضلاً عما يقرأه في ذلك من وقائع التّاريخ وشهادات الحكماء من الأحياء. وكلما تعددت خبرات الإنسان وتنوعت قراءاته، وتعددت سماعاته، أصبح أقدر على إدراك عمق الأشياء، وربط النّتائج بالأسباب، واستشراف المآلات، ومن هنا يكون النظر أكثر تسديداً، والفعل إلى الصواب أقرب.
إن نواة التجربة هو ما يسمى في بادئ الرأي بـ «الخروج من منطقة الراحة»، ولعل هذا ما يفسر الأثر الشهير «اطلبوا العلم ولو في الصّين»، حيث اللغة غير اللغة، والملَّة غير الملة. فكلُّ شيء مختلف، وكأنه في الغُربَة فقط يجد المرء ذاته، حين يجد ضالَّته في عالم ناءٍ ومُختلف، وعندها أيضاً يَتزيَّدَ بالتجربة حكمة وحلماً، إذ «لا حليم إلا ذو تجربة» أيضاً.
تلتقي الحكمة والحلم كثيراً في عالم القيم، إذ نادراً ما تجد حكيماً غير حليم، فالحكمة وخُلوُّ القلب من المآخذ على الخلق دائماً ما يجتمعان، ولا سبيل إلى اجتماعهما إلا تجربة تجعل الأمل قصيراً، والإقامةَ عارضة، وكل ما هو زينةٌ اليومَ، هو «غُثاءٌ أحوى» غداً.
إن سلوك التجربة لإدراك الحقائق في عمقها، وكشف معدن الإنسان بها ملحظ قرآني تجليه كثير من الآيات التي تحكي لنا مواقف أنبياء فتحت التجربة أبصارهم على حقائق لم يكونوا ليدركوها لولا خبرة مرّوا لها، فهذا إبراهيم عليه السلام، يريد تجربة تجعل الحياة والموت أمامه عياناً، فأدخله ربّه مختبراً، وأجرى له التجربة التي اطمأن بها قلبه. والخليل لمْ يُسمَّ خليلاً إلا بعد تجربة الابتلاء الموفّقة بالكلمات. وهذا موسى تَطلَّع إلى رؤية خالقه، فكانت التجربة المدهشة التي أحالت الرؤية. وكذا رحلته، عليه السلام، مع الخضر التي فتحت له باب التجربة الروحية التي أطلعته على «العلم اللّدُني» الذي لم يكن ليخبره لولا العبد المعلم. وهذا العُزَير الذي مر بتجربة الموت والحياة، هو وحماره، ليرى الحياة تتخلّق في حماره بعد عام من موتهما، يقيناً عياناً للتحقق من البعث والنشور. وهذا كله من لطف الله بعباده، وتقريب الأمور العظمى، احتراماً لعقولهم، وحرصاً على إقناعها بالتجارب، وشفاء جهلها بالخبرات.
ولولا أن الإنسان الحديث جعل التجربة قبلته في العلم لما أدرك ما أدركه اليوم من أسرار هذا الكون، وحصّل ما حصّله اليوم من حضارة قائمة على العقلين معاً؛ العقل النّظري المشبع بالرياضيات، والعقل العملي القائم على المختبرات، بهذين العقلين نتبوأ اليوم ما نتبوأه من ثمرات الحضارة المعاصرة.
إن الحكمة النظرية والعملية لا تخرجان إلا من أتون التجارب، وتظلّ التجربة، سنّة كونية دائمة، تعجم عود الإنسان، وتحرره من الإكراهات والضغوط، ويطل من خلالها على حقائق الكون المتمنِّعة، وتكشف له المخبوء وراء المظاهر الخادعة، وتفتح له أبواب الخيارات المناسبة، تجنّباً للطريق المسدود، إلى الطُّرق المشرعة على السّعادة، سعادته هو، وسعادة من يُحبُّهم ويُحبّونه.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية