إن موضوع استخدام الثقافة أو الإعلام معروفٌ في الحرب الباردة؛ فقد كان الأميركيون يركّزون على التفوق الأخلاقي الناجم عن الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان والقانون الدولي. وهذه كلها أمورٌ ومبادئ كانوا يَدَّعون أنها متوافرة في أنظمة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وليست متوافرة في الكتلة الشرقية التي كانوا يسمونها دول ما وراء السور الحديدي! وبالطبع ما كان الفريق الآخر يصمت، بل يجيب بأن الأميركيين وليس الشيوعيين هم الذين استخدموا السلاح النووي لأول مرة، وهم الذين شنوا حروبَ كوريا وفيتنام.. كما أنه من الفضيحة أن تتصاعد في الستينيات حركة الحقوق المدنية في أميركا لمواجهة التمييز المتوارَث بين البيض والسود! فرانسِيس ساوندرز في كتابه «مَن الذي دفع للزمّار؟.. الحرب الباردة الثقافية»، تتبع المجلات الأدبية والفكرية والسوسيولوجية التي أصدرتها المخابراتُ الأميركية في أوروبا وكَتَب فيها كبار المثقفين الليبراليين واليساريين وقبضوا أثماناً عاليةً لمقالاتهم دون أن يعرفوا أن الأجهزة السرية الأميركية تنفق عليها.
وعندما عُرفت مصادر الدعم في أواخر الستينيات، كان هناك بين المثقفين من انشقّ عن الاتحاد السوفييتي، لكن كان بينهم أيضاً مَن أظهر ندمَه وتوقَّف عن الكتابة في تلك المجلات التي سرعان ما توقفت هي أيضاً وإنْ بالتدريج. في أواخر زمن الحرب الباردة، وما بعدها في التسعينيات، ظهر ملفٌّ جديدٌ ثقافيُّ الطبيعة استخدمه الاستراتيجيون الأميركيون في الدعاية لبلادهم، ولإيضاح تفوقها وأسباب جاذبيتها، وهو ملفّ القوة الناعمة الجاذبة للعالم في التعليم والجامعات والهجرة والحريات الاقتصادية والديمقراطية وحكم القانون. كان الرائد في إثارة هذه المسألة التي كُتب فيها الكثير أستاذ العلوم السياسية جوزف ناي الذي عمل في إدارات رؤساء عدة. وبالطبع فإنّ هذه الدعوى أيضاً خفَتَ صوتُها بعد أن غزت الولايات المتحدة أفغانستان (2002) والعراق (2003).
والأكثر إثارة للدهشة هو ما آلت إليه هذه التدخلات بمئات آلاف الجنود، إذ عادت «طالبان» للسلطة في أفغانستان عام 2022، ونشبت في العراق عدةُ حروب داخلية، وخرجت الولايات المتحدة مراراً، ودخلت مراراً، وتوشك أن تخرج ربما ليس للمرة الأخيرة! إنّ الانتقادات التي انصبّت على الولايات المتحدة تحت عنوان «عالم ما بعد أميركا»، ثم تحت عنوان «انهيار الغرب».. ديدنها الذهابُ إلى أنه لو كانت القوة الناعمة تنفع لما اندفعت الولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية في كل المناسبات! بين يديَّ كتابٌ جديد صادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، عنوانه «المنظور الجيوثقافي.. توظيف القوى الكبرى للثقافة في العلاقات الدولية». والجديد في هذا الكتاب، وهو مجموعة من البحوث، كونه يعرض دعاوى ودعايات الجانب المقابل أيضاً، أي روسيا والصين. فدعوى روسيا الآن قومية وسيادية، وهي للإقناع والاقتناع الداخلي.. الآخرون يريدون شنَّ الحرب وروسيا تدافع عن قوميتها وعن سيادتها في وجه تطويق الأطلسي. أما الصين فتتظلم من ضغوط الولايات المتحدة الاقتصادية غير المبرَّرة، وضغوطها في بحر الصين بغية التشويش على الوحدة الوطنية الصينية.
هل هي دعاوى «ثقافية»؟ ليس لدى الأميركيين دعاوى جديدة، ثقافية أو استراتيجية، باستثناء الزعم بأنّ الروس يعتدون على القانون الدولي وحقوق الإنسان في أوكرانيا. أما الصين فتذهب إلى أنّ مبادرتها الاستراتيجية «الحزام والطريق» (2013) هي خير جواب على الدعاوى الأميركية، وهو جواب يجمع الثقافةَ إلى الاستراتيجية. وفي إشكاليات النظام الدولي تدعو جهات عدة إلى تعددية قطبية تتجاوز الهيمنة. وليس في الأمر ثقافة بشكل مباشر، إلا إذا اعتبرنا التعددية في المجال الدولي أدنى إلى الأخلاق!
*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية