دائماً ما أواجه أياماً معتلةً بالحساسية في فصل الصيف لما يحملهُ من حرارة مصحوبةً بروائح الأشجار والأزهار وعوادم السيارات وغيرها كالغبار والبقايا المتطايرة في الهواء، ومع تلك الحساسية أكون أسيراً لذكريات مرتبطة بالعطلة الصيفية، الأمر الذي دفعني إلى البحث والسؤال عما إذا كان الصيف يُمثل حالة فريدة لدى غيري. وهنا اخترت أقوالاً وقصصاً لبعض الأفراد جمعتها ووضعتها في سردية حوارية ممزوجة بالفلسفة.
يقول المحلل في العلاقات الدولية عن الصيف، لقد حدد صيف 1990 مستقبلي، فكارثة الغزو العراقي للكويت كونت لي رغبةً وطموحاً في دراسة العلوم السياسية، فأصبحت كاتباً ومتخصصاً في حقل الأمن والاعتماد المتبادل بين الدول.
ويرد عليه المحدق في علم الاجتماع بدقتهِ العالية: عزيزي دائماً الإنسان يتأثر ببيئتهِ الاجتماعية الداخلية وأيضاً بالبيئة الإقليمية والدولية.. بينما يقول من عاش حياة العمل والإنجازات: الصيف بمثابة مكافئة سنوية لي، لذا أنا كثير السفر والرياضة والتسلية والتسوق في أيامهِ ذات النهار الطويل..
يعاود عرّاب السلوك الاجتماعي وعبر رؤية هوبزية للإنسان قائلاً: إن الاحصائيات في العديد من البلدان تكشف بأن الجرائم تقل في الصيف بسبب طول النهار وكثرة الحركة والتواصل والتسلية، فكل ذلك يخلق مراقبةً طبيعية ورادعة بين الناس، بينما في الشتاء تزداد الجرائم بسبب ضعف المراقبة الاجتماعية الرادعة للعدوانية البشرية الهوبزية، حيث الظلام وقلة حلقات التواصل الاجتماعي.
في تنهيدةٍ تحمل شيئاً من التراجيديا يقول الغني بالوراثة: يا سادتي لا مناص من صيفي، فأنا رجل فَقَدَ أمهُ في مرحلة الطفولة، وإذا بي أفرط في تقبل كل عناية وتدخل من زوجتي، مازلت أتذكر ذلك الصيف، بينما كنا نتسوق أخذت اشتري بعض الملابس بينها  أقمصة طويلة العنق شتوية، فلطالما أحببت ملمسها على رقبتي وعنقي، ولكن زوجتي المتحكمة قالت ناهِرةً: ما هذا نحن في الصيف!، فقمت واخترت قميصين أحدهما أخضر والآخر أصفر، كاسراً تحكمها، نظرت زوجتي لي مبتسمةً ومذكرةً: عقدنا العزم على التنزه في الغابة المحيطة بمركز المدينة غداً، وفي الغابة حَلَت الكثير من الحشرات على قميصي الأصفر، وفجاءةً تعرضت للسعةٍ من حشرة ما، وفي ثوانٍ تهيج جسمي مسبباً حالة من الربو- ضيق في التنفس، فهرولتُ لزوجتي غاضباً: الغابة مليئة بالحشرات، عاودني الربو، فقالت ساخرةً: هذا اختيارك وألوانك المتمردة على الصيف، أسوف تتمرد مرةً أخرى؟ ومدت يدها لي بدواء الربو الخاص بي، ومن حينها أدركت بأن زوجتي نرجسية خفية ولطيفة!
وفي سياق التمرد على الطبيعة والوضع الاجتماعي، تتدخل امرأة مناصرةً للنسوية لتنهي هذا الحوار عن الصيف: لطالما كُنتُ متمردةً على الطبيعة وتائهةً بين الفصول الأربعة عبر اِدعائي الحرية والمساواة في العقلانية مع الرجل، وغابت عني حقيقة طبيعتي الأنثوية التي يزداد جمالها بعلمها وتكاملها وعطفها، وتتويجها بولادة الحياة عبر تحولها لأم.
*كاتب ومحلل سياسي