الفرح قيمة أخلاقية جليلة قرينة بالسّعادة، وتعد عنصراً من عناصرها، ولَمْ يكن الفرح سلبياً إلا بالمعنى الذي يصير فيه كبراً وبطراً، وهو المعني في قوله تعالى ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ/القصص:76). أما الفرحُ بمعنى السّرور الذي يجتاح النّفس المتطامنة، ويذرع القلب المخموم، إثْرَ مكسب مادي أو رمزي، قريب أم بعيد، فحدثٌ نفسيٌّ أهلٌ أن يُحْتفى به ويُشجَّع، وقد ذُكر بهذا المعنى الأخير في غير ما آية من القرآن الكريم، ومن هنا تعدّدت سياقاتُ الفرح من حيثُ المدح والذم، لكن يظلّ المذموم منه ما ارتبط بخيلاء وبغي، ويظلُّ الممدوح منه ما ارتبط بالتّواضع والشّكر.
ويكفي الفرح أن يكون قيمة مطلوبة، وشعوراً إيجابياً محموداً أنه يدرأ عن الإنسان الحزن، وهو من المشاعر القاتلة التي حذّرت منها الأديان، كما حذّرت منها الفلسفات، ودعت إلى الخروج من حبائلها، لما تُسبّبه من تثبيط للهمّة ونخر للجسد، وليس من سبيل إلى الخروج من حزن قاتل إلا فرحٌ محيِّ، ومن هنا أهمّية إشاعة الأفراح ونشرها بين الناس تذكيراً بما هم فيه من النّعمة، واستشرافاً لما يأملونه من سرور إذا ضاق بهم واقعهم، إذ الحياةُ بالفرح آثرُ من الحياة بالأسى والأحزان.
إذا كانت الحياة تفيض بما هو جميل، فإنّ الذي ينقصها هم الأشخاص الذين يجسّدون هذه اللحظات الجميلة، ومن هنا تعد من أكبر الأخطاء التي تقع فيها المجتمعات أنها تحرم أبناءها من الفرح، ويعتبر «نيتشه» أن أعظم ما ارتكب في العالم من أخطاء قولهم: «ويل للضّاحكين في هذه الدنيا»، والضّحك أحد التجليات الإنسانية التي تظهر ببراءة عند الأطفال، وكذلك اللّعب هو مصدر أثير للمرح، والحرمان منه خطأ كبير، خاصّة أنّ "في كل رجل حقيقي يتخفّى طفلٌ يتوق إلى اللّعب"، كما يصرّح نيتشه نفسه.
إن المرح استعداد أصيل في الإنسان، وتعتبر الانتصارات والمناسبات المبهجة المعيشة فرصة لحياة الفرح، بل إن الفرح يجب أن يكون طريقة في الحضور في العالم، فيصبح السّلوك الإنساني تجلياً لفرح النّفس بالنّعم المحيطة بها والتي لا تبصرها أحياناً إلا العين الباطنة حين تذهل العين الظاهرة عنها. ولعل لهذا السبب يتسيّد الاكتئاب عند الكثير من النّاس، حتى إنّ مظاهر الفرح المحيطة بهم لا تحرّك فيهم جمالاً، ولا تُطرب لهم نفساً. ولعل في قول نيتشه بأن «سحر الحياة الأكثر فعالية، أنّها مغطاة بحجاب منسوج من ذهب»، ما يفسّر بعضاً من ذلك.
يجب أن تعي كوميديا الوجود ذاتها، إذا نحن استأنسنا بنيتشه أيضاً، فالفرح هو حالةٌ وأفقٌ، حالةٌ يعيشها المرء مع انتصاراته الآنية ونجاحاته الحاضرة، وهو أفق يشرئبُّ إليه الإنسان، في لحظات العتمة ولُجّة الظلام، وهو ما ينفرد به المؤمنون جميعهم عندما يعتقدون أنّهم سيفرحون يوماً بالانتصار على كل أشكال الأحزان القاصمة، وعلى كل صروف الدّهر المهولة، ويوصي محي الدين ابن عربي مريده بهذا المعنى بقوله البديع: «فالزم التّسليم يلزمك السّرور بالسّابقة».
مع لحظات الفرح التي نعيشها، ومع لحظات انتظار الفرح الموعود، يلتقي بكاء الفرح والسرور، بعبارة ابن عربي، عندها يتّسع القلب للبهجة، وترقص النفوس طرباً، فلا تجعل للأحزان عليها سبيلاً، وخاصة عند اليقين بقرب وعيد الفرج، حقاً، إن الأفراح لصيقة بالأتراح، ولا يمكن في نظر نيتشه تلمس الفرح إلا بعد ذَوْقِ الألم، لكن بالتّسليم وارتياد الإنسان عوالم الإبداع التي تحرّره من أَسْر الواقع وضغطه، يُقهر الألم، ويُنشئ السّرورُ وأفراحُ النّفس عوالمَ من السّكينة واللّذة، ظلالاً لعالم السّعادة السّرمدية.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية