يروي المؤرخ البولوني «وينولد زايلوسكي» في كتاب جديد له القصة التالية: في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية في عام 1945، عُقد في يالطا مؤتمر لرؤساء الدول التي حاربت ألمانيا وانتصرت عليها، وذلك للاتفاق على تقاسم السيطرة على العالم. كان الرئيس السوفييتي جوزف ستالين هو المضيف. يقول المؤرخ زايلوسكي إن ستالين تعمّد إغراق ضيوفه بالكافيار الفاخر والشمبانيا المعتَّقة، وقد حصل منهم على ما يريد، ألا وهو شرق أوروبا.
وفي كتابه «ماذا بعد مطبخ الكرملين؟»، يقول زايلوسكي أيضاً إن المائدة السوفييتية كانت امتداداً لطاولة المباحثات السياسية. فحيث تعجز دبلوماسية التفاوض أو تتعثّر، تُستخدم دبلوماسية المائدة.
ويقول المؤلف إن دبلوماسية المائدة كانت دائماً عاملاً أساسياً في مباحثات التفاوض التي كانت تُعقد في الكرملين خلال العهد السوفييتي. ولذا، فإن مطبخ الكرملين كان بشكل أو بآخر أحد العوامل المؤثرة في الدبلوماسية السوفييتية وفي «فنّ الإقناع».
وفي عهد الرئيس السوفييتي الأسبق ليونيد برجنيف، زار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون موسكو وحلّ ضيفاً على الكرملين. وقد صوّرته كاميرا المخابرات السوفييتية وهو يصوّر كل طبق من الأطباق التي وُضعت على المائدة.
حتى أن رئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت تاتشر التي كان يُعرف عنها أنها تحرص على عدم الإكثار من الطعام، كانت - وهي على مائدة الكرملين - تطلب إضافةً ثانية وثالثة ورابعة في كل مرة يُقدم لها طبق جديد. وكانت كاميرا المراقبة (عيون الخدم) تصوّر هذه الوقائع وتوثّقها. ذلك أن هؤلاء الخدم كانوا يعملون في جهاز المخابرات السوفييتية.
ولذا فإن المطبخ السوفييتي، بالعاملين فيه وبالأطباق التي يقدّمها، كان جزءاً من جهاز المخابرات «كي.جي.بي».
وينقل المؤلف عن أحد مسؤولي المخابرات السابقين أن الرئيس السوفييتي ليونيد برجنيف كان يلجأ إلى مطبخ الكرملين بعد عودته من وليمة في الخارج ليتناول كأساً من الحليب الساخن Blinis مع طبق من البطاطا المسلوقة.
وكان من أبرز وأقدم الطباخين في الكرملين جندي سابق في الجيش السوفييتي يتقن فنّ الطبخ وفنّ تقديمه، يُدعى سبيريدون بوتين، وكان عضواً في جهاز المخابرات وموضع ثقة ستالين، وقبله لينين.. وهو والد الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين.
لا تقتصر قصص كتاب المؤرخ البولوني على مطبخ الكرملين وضيوفه من زعماء وقادة العالم، ولكنه يتناول أيضاً المطابخ الأخرى الملحقة أو المتأثرة به. ويروي عن نساء أوكرانيات كيف أعددن الطعام لعمال ومهندسين كانوا يعملون في محطة تشيرنوبيل النووية بعد انفجارها (في العهد السوفييتي) من مياه ملوثة بالإشعاع المتسرّب..
ولعل أكثر صفحات الكتاب سوداوية تلك التي تتعلق بقصص عن فترة المجاعة التي ضربت أوكرانيا في العهد الستاليني (بين عامي 1932 و1933). يقول المؤلف إن الناس أكلوا أوراق الشجر وجذوعها الطرية، وأكلوا الحيوانات صغيرها وكبيرها.. ويذهب أبعد من ذلك فيروي قصة رجل أصيب بانهيارٍ حمله على قتل أطفاله ليتخلص من بكائهم بسبب شدة الجوع، ثم ليبحث في بقاياهم عما يسدّ به جوعه هو أيضاً. يرسم هذا الكتاب علامة استفهام كبيرة حول العلاقة بين المعدة والعقل.. ولكن من غير أن يجيب عليها.
ولعل أول مائدة في التاريخ تربط بين العقل والمعدة تلك التي أنزلها الله تعالى استجابةً لدعاء السيد المسيح لإقناع حوارييه بنبوّته. وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، وتُعرف في الأدبيات الدينية المسيحية باسم «العشاء الأخير». يومها ذُهل الحواريون وآمنوا بالمسيح ورسالته. لكن طعام السماء غير طعام الأرض، وحواريو السيد المسيح غير حواريي القادة السوفييت وضيوفهم. لكن في الحالتين كانت المائدة وسيلة للإقناع، حيث يُخاطَب العقلُ من خلال المعدة.

*كاتب لبناني