يعتبر كارل بوبر أن الموت هو الحقيقةُ الوحيدةُ التي لا يمكن الشكُّ فيها، فكلُّ الحقائق فرضيات قابلة للتّكذيب، إلا الموت، فهو الحقيقة التي تعلو على كل تفْنيد. ويُعبّر القرآن الكريم عن علاقة الإنسان بالموت في صور شتى، أهمها صورة الذّائقة، فالموت هو شيء له ذوق يستمرئه كل إنسان مكرها، ويستسيغه كل فرد مضطراً، ويتحدّى القرآن منكري البعث أن يدرأوا عن أنفسهم الموت، أو يفروا منه ويتحصّنوا.
إن فكرة الرحيل فكرة مفزعة، والموت قدر محتوم، وقد كان ذلك شغل الفلاسفة منذ القديم، بل كان شغل البشرية قبل أن تظهر فيها الفلسفة بالمعنى الذي نعرفه اليوم، وملحمة جلجامش هي رحلة للبحث عن الخلود وضياعه، وقبلها مُنِّيَ آدم عليه السلام بالخلود في قصّته مع مكر إبليس به. فالحياة الأبدية شوق دفين في الإنسان لو استطاع تجسيده لما تأخر، وإن كنا نرى اليوم بعض المظاهر الشاذّة من شخصيات تؤثر الموت على الحياة لأسباب خاصة جداً، كما نسمع اليوم كثيراً عن الممثل الفرنسي ألان دولون.
كانت فلسفة كلّ من الرواقية والأبيقوية جوابين عن سؤال الموت، وكيف نمنع النّفس من الخوف والجزع منه، وقد كان مثال سقراط الهادئ أمام الموت، من قبل، مناسبة للفلاسفة للتفكير في الموت في آفاق متعددة، حتى أصبح الموت يدخل في تعريف الفلسفة، كما اقتبس ذلك الكندي في أحد تعريفاته الشهيرة.
وإذا كان الموت هو المصيبة الوحيدة التي لا تصيبنا، وإنما تصيب من يحبنا ويعزّ عليهم فراقنا، فإن الأحياء، مدفوعون بحافز الخلود الفطري الذي حرك أبانا آدم، لا يفتأون يحرصون على آثارٍ تُذكرُ الناس بهم بعد مماتهم، ولعل هذا ما يفسّر حرص الملوك، خاصة، على أن يخلفوا وراءهم آثاراً عظيمة، تخليداً لذكراهم، وقد تنبّه الرسول عليه السّلام لهذا النزوع الجِبلّي، فحصر الأعمال التي ينبغي على الإنسان أن يصرف همه إليها لتخليد ذكره بها في؛ العلم النّافع، والصّدقة الجارية، والولد الصالح الذي يدعو له، ومن العلم بناء المؤسسات العلمية من مدارس وجامعات ومراكز بحثية، ومن الصدقات الجارية بناء مؤسسات تدر النّفع على الناس، فلا يزالون يتذكرون صاحب المكرمات عليهم ويدعون له، وفي هذا البلد الأمين، تعتبر شخصية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أكثر من نستحضر في هذا المقام، لمكرماته التي تعدّت بلده حتى أصبحت مكرمات عالمية تُخلِّدُ ذكره، يشهد لذلك القاصي والدّاني.
والوفاء لذكرى الأموات من شيم المجتمعات الإنسانية، وجعلها أفلاطون في كتاب القوانين من قبيل الأعياد التي تُثبَّتُ بها الفضائل في النّفوس باعتبارها مناسبة للتّذكير بما كان عليه السّابقون من جميل السّجايا إحياء لها، وتحريضاً على التّشبّث بها، مما يعني أن الأموات يظلون أحياء في مجتمعات لا تَنسى ذكراهم، يتأسى بهم الأبناء والأحفاد، وهذه الذكرى المتجدّدة هي نتيجة لصلاح الأبناء الذين لا يفترون عن ذكر آبائهم، والتنويه بمناقبهم، والاستغفار والرحمة لهم، وهي ظاهرة جلية للعيان، خاصة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، التي تجعل لعلاقة الأبناء بالآباء قُدسية خاصة.
إن علاقة الموت بالحياة علاقة عجيبة، فمن الحياة يخرج الموت، ومن الموت تخرج الحياة، ظاهرة يلاحظها الإنسان في هذا الكون، وهي في الإنسان أشد ظهوراً على مدار القرون؛ فنجد الإنسان وقد مات ودرس، وذكراه حية بين الأحياء، وكأنّه لم يغادر هذه الدنيا، وكأن مجلسه بين ذُرّيته لا يزال متخذاً، وهي بشارة على حسن الخاتمة بالحياة الدائمة في النّعيم المقيم، حيث لا موت ولا فناء؛ (وإن الدّار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)/ العنكبوت:64.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية