كنت مع صديق يجمعنا كثير من المودة، كما يجمعنا العقد الخامس من عمرنا إذ نحن أبناء جيل واحد. هو أكثر مني دراية وشغفاً بكل جديد في تكنولوجيا المعرفة والثورة التقنية الحديثة والمتسارعة، وعنده قدرة على متابعتها بذات التسارع، بينما احتاج أنا وقتاً إضافياً طويلاً لإدراك هذا التسارع التكنولوجي المذهل. حدّثني صديقي عن آخر تصريحات إيلون ماسك حول الذكاء الاصطناعي، وأنه سيكون أذكى من البشر في عام 2025. أي أن ماسك يتحدث عن العام القادم! صديقي كان يتحدث بحماس وفضول، بينما تملّكني شيء من الخوف، خصوصاً حين أعرب عن اعتقاده بأننا سنكون آخر جيل «إنساني تقليدي»، وأننا محظوظون بذلك. أتفق معه أننا محظوظون، كوننا نمثل ما وصفتُه أنا بجيل «البرزخ»، الجيل الذي عاش زمنَ ما قبل ثورة تكنولوجيا المعلومات وانتقل بسلاسة «نسبية» إلى عصر التقنية المعلوماتية. شخصياً، لا أزال أتذكر جيداً دهشتي في عصر ما قبل الإنترنت وأنا أقف أمام جهاز «الفاكس» مستغرباً ومحاولاً أن أستوعب كيف لورقة ندخلها في هذا الجهاز أن تخرج بعد دقائق قليلة من جهاز آخر مربوط بأسلاك في مكان آخر تتوفر فيه الخدمة الهاتفية السلكية لكنه بعيد جداً.
استيعاب الفاكس ومفهومه لم يكتمل هضمه الذهني عندي، وإذ بي أجدني أمام شاشة كمبيوتر «ضخمة في البدايات وثقيلة الحجم» مربوطة بذات الأسلاك الهاتفية، لكنها تفتح لي نوافذَ على العالم كله. بالكاد كنت أحاول استيعاب ذلك لتتقزم الشاشة وتختفي الأسلاك كلها وأقف أمام «لاب توب» فيه كل مؤهلات المكتب الذي تنجز عليه أعمالك. وأيضاً ما نزال في حالة «الدهشة» وإذ عملية تقزم المعلومات كلها والعالم في جهاز بحجم راحة اليد، له شاشة لمسية يمكن لك أن تنجز منه الصفقات التجارية بكل مستوياتها، بدءاً من شراء تذكرة سفر وليس انتهاءً بمضاربات البورصة، إن كان لديك المال، والمال هذا أصبح افتراضياً وخرج عن مفهومه التقليدي الاقتصادي كمخزن للقيمة، لتصبح هناك عملة لا يمكن لمسها ولا تحسسها، أي أنها مجرد افتراضية بالكامل وبها يمكن أن تشتري أي شيء في العالم. واليوم يتحدثون عن الذكاء الاصطناعي الذي أحاول فهمه ولو بالحد الأدنى لأعرف إلى أين نحن ذاهبون بمسيرتنا البشرية. والخلاصة أني لا أرفض التكنولوجيا، لكن لدي حنين للماضي لا أستطيع إنكاره. لقد عشتُ في بيت طين أول سنوات حياتي.. وحنيني هو لما عشته وقتها وليس لبيت الطين نفسه. كنت أتابع محطات الراديو بإدمان على مؤشر الإبرة التي تنقلني صوتياً إلى أماكن بعيدة.. لكن في عصر المنصات الرقمية يكون من السذاجة أن أفرض الراديو في المنزل وأُلغي التلفزيون الذكي. كان الهاتف «أبو قرص»، والذي يحمل قفلاً في بعض المرات منعاً لاستخدام «الصفر الدولي»، جزءاً من ذاكرتي. واليوم أحب اقتناء واحد كتحفة على مكتبي، لكن لن أشترك بخط هاتف أرضي لا أحتاجه في زمن الموبايل. هي أشياء صارت متحفية، تماماً كما توقع فرانسيس فوكويوما عام 1989 في نظريته «نهاية التاريخ».
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا