بات قرائي يعرفون الآن رأيي في استطلاعات الرأي الوطنية التي أُجريت قبل حوالي سبعة أشهر من الانتخابات: فهي أسوأ من كونها بلا معنى، إذ يؤدي الهوس المنتشر بالاقتراع إلى تضليل الناخبين (وإخافتهم) وفي نفس الوقت استبعاد الجوانب الأساسية لما يفترض أنه حملة تاريخية.
بادئ ذي بدء، يعمل الضجيج المستمر في استطلاعات الرأي على تصوير الانتخابات وكأنها سباق خيول، خالٍ من النتائج الأخلاقية أو السياسية. إن استطلاعات الرأي المبكرة تصرف انتباهنا عن ما هو أساسي وبالغ الأهمية، أي الهجوم غير المسبوق الذي شنه الرئيس السابق دونالد ترامب، المُتَّهم أربع مرات، على الديمقراطية. والحقيقة أنك عندما ترغب في «تعليق» الدستور، واستخدام القوة لقلب إرادة الناخبين، وإطلاق العنان للمؤسسة العسكرية في مواجهة المدنيين، واستخدام وزارة العدل كسلاح.. فإنك بذلك تتوق إلى تقويض الديمقراطية وتحويل أميركا إلى شيء أشبه بجمهوريات الموز.
وفي أسوأ الحالات، تؤدي تغطية استطلاعات الرأي إلى تضليل الناخبين. خذ بعين الاعتبار افتتاحية نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخراً، وفيها كتب «شين جولدماخر» أن «الرئيس بايدن كاد أن يمحو التفوق الذي كان يتمتع به دونالد ترامب في استطلاعات الرأي المبكرة، وسط مؤشرات على أن القاعدة (الديمقراطية) بدأت تتجمع خلف الرئيس، على الرغم من الشكوك المستمرة حول اتجاه البلاد والاقتصاد، وحول سن الرئيس، وفقاً لمسح جديد أجرته نيويورك تايمز وكلية سيينا».
وهذا غير صحيح، فقد كان الاستطلاع السابق ضمن هامش الخطأ، وكذلك الاستطلاع الذي يروج له جولدماخر يقع هو أيضاً ضمن هامش الخطأ. لم يكن هناك أي تغيير إحصائي. ورواية «تراجع بايدن! وهو الآن يلحق بالركب! غير دقيقة من الناحية الحسابية. ومع ذلك، يرسم الاستطلاع سرداً ويضع إطاراً للتغطية: لماذا فقد ترامب تقدمه؟ هل يستطيع بايدن الحفاظ على عودته؟ وكل ذلك مبني على فرضية خاطئة.
وحتى لو قدمت وسائل الإعلام استطلاعات الرأي بأمانة (على سبيل المثال، «يظهر الاستطلاع أن السباق الآن مرتبط إحصائياً ولكن استطلاعنا لا يتنبأ بالمستقبل»)، فإن التركيز المهووس على الاستطلاع، كما لو كان هو الخبر نفسه، من شأنه أن يشوه التصور لسبب بسيط: لا يمكننا أن نعرف في شهر أبريل من سيفوز في نوفمبر.
ومن شأن هذا الإدراك أن يصدم أولئك الذين يتطلعون إلى صناديق الاقتراع بحثاً عن العزاء العاطفي خلال موسم انتخابي مثير للقلق. ومع ذلك، فإن الكثير من الأشخاص الذين سيصوتون بعد سبعة أشهر لم يهتموا بعد بالسباق. وعلاوة على ذلك، لا يزال هناك الكثير من الأحداث التي لم تقع من الآن وحتى نوفمبر، كي نتمكن من القول إن السباق في ذلك الوقت سيبدو كما يتبين من استطلاعات الرأي الآن. هناك عدد لا حصر له من المتغيرات (على سبيل المثال، يمكن إدانة ترامب، أو تبرئة ترامب، أو احتمال اندلاع حرب أوسع في منطقة الشرق الأوسط، أو يمكن لبايدن التفاوض على اتفاق سلام في تلك المنطقة). فكر فقط في كيفية تأثير خطاب واحد، وهو خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه بايدن، على تصور الناخبين.
سيقول المدافعون عن الاستطلاع: «يُظهر الاستطلاع فقط ما الذي سيحدث لو جرت الانتخابات اليوم!»، لكن الانتخابات لن تجرى اليوم، وكل شيء من الآن وحتى ذلك الحين سيحدد النتيجة. إذن ما فائدة إجراء استطلاع للرأي في أبريل؟ بصراحة، إنها طريقة كسولة ورخيصة الثمن لجذب الجمهور.
نادراً ما يعكس استطلاعُ الرأي المبكر النتيجةَ. إذ أن أموراً كثيرة قد تحدث في هذه الأثناء. وكان هذا صحيحاً في الأعوام 2020، و2016، و2012، و2008. ويواجه القائمون على استطلاعات الرأي معدلات استجابة منخفضة للغاية، ودرجة عاليةً من عدم اليقين في تحديد مَن سيصوت بعد أشهر من الآن.
قال «بريان كلاس»، أستاذ العلوم السياسية ومؤلف كتاب «الحظ: الفرصة والفوضى.. لماذا كل ما نفعله مهم؟»، في مقابلة أجريت معه في يناير: «ليس لدي أي فكرة عمن سيفوز في انتخابات عام 2024. من المستحيل أن نقول ذلك، وذلك لأن العالم سيتغير بشكل جذري في الأشهر العشرة المقبلة أو نحو ذلك». ويضيف أن «أي شخص يقول لك: أنا أعرف بالضبط ما سيحدث، فهو يكذب عليك.. ربما يحاولون يائسين بيع الصحف وجذب الانتباه وجذب المشاهدات». وتابع كلاس: «لا نعرف ما الذي سيحدث. أتمنى لو كان هناك قدر أكبر من التواضع في التنبؤ وقليل من الاعتراف بأن نظرية الفوضى تخبرنا بأن القدرة على التنبؤ بالمستقبل حلم بعيد المنال. لن نكون في ذلك العالم الذي يمكننا أن نتخيل فيه المستقبل بوضوح تام».
ويخبرنا علماء النفس أن لدينا تحيزاً متأصلا (على وجه التحديد، تحيز الإسقاط) والذي يقودنا إلى افتراض أن المستقبل (بايدن يخسر!) سيشبه الحاضر (تراجع بايدن!). ومع ذلك، في أبريل 2008، لم يتوقع سوى قِلة من الناس الانهيار المالي الذي حكم على حملة جون ماكين بالفشل، وفي أبريل 2016، لم يتخيل أحد أن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جيمس كومي سيقدم «أدلة جديدة» حول رسائل البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون قبل 11 يوماً من الانتخابات. والمتنبئون بـ«الموجة الحمراء»، الذين أمضوا أشهراً في توقع هزيمة «الديمقراطيين» في عام 2022، لم يأخذوا في الاعتبار أبداً قضيةَ دوبس ضد منظمة جاكسون لصحة المرأة.. إلخ. وبعبارة أخرى، هناك أمور كثيرة تحدث ويمكن أن تغير اتجاهات التصويت في أي لحظة.
والأسوأ من ذلك أن جنون استطلاعات الرأي يزاحم الأخبار الحقيقية والأسئلة الحيوية التي ستشكل مستقبلنا الجماعي. لماذا يتكلم ترامب دائماً بطريقة خاصة ويبدو غير متماسك؟ كيف يقارَن سجل بايدن الاقتصادي مع الرؤساء السابقين؟ ماذا حدث لوفيات الأمهات والرضع والفقر في الولايات التي تمنع الإجهاض؟
وبدلاً من التظاهر بأن الخبراء السياسيين قادرون على توقع النتائج (وهو ما يخلق بدوره تغطية إعلامية تتناسب مع التوقعات)، فمن الأفضل لوسائل الإعلام أن تركز على «ليس الاحتمالات، بل المخاطر»، كما يقول أستاذ الصحافة في جامعة نيويورك «جاي روزن. هو - هي». ليس فقط المخاطر مصير الديمقراطية على قدر كبير من الأهمية في عام 2024، بل إن الاحتمالات (استطلاعات الرأي) في هذه المرحلة لا معنى لها عملياً. ويجب على مستهلكي الأخبار تقييم التغطية وفقاً لذلك.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»