ديمقراطية أفريقيا والتحول السياسي
في حلقة نقاشية حضرتها مؤخراً في إحدى العواصم الأوروبية حول أوضاع التحول السياسي في أفريقيا، طرح بعض المتدخلين سؤالاً جريئاً حول مدى ملاءمة الديمقراطية الليبرالية التعددية لبلدان القارة، التي لم تفتأ تعرف في السنوات الأخيرة موجات متتالية من الانقلابات العسكرية كردة فعل على أنظمة منتخبة فاسدة. لقد أصبح من الضروري -حسب المتحدث- الحسم في هذه الإشكالية المحورية التي يتوقف عليها مسار التحول السياسي والاستقرار الداخلي في البلدان الإفريقية.
أذكر أن أحد القادة الأفارقة قد حذر الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران من الضغط على الحكومات الأفريقية من أجل اعتماد مسلك التعددية الحزبية والمؤتمرات التأسيسية الدستورية، التي لن تفضي حسب عبارته إلا إلى «الحشود الصاخبة» و«الأحزاب القبلية». ثلاثون سنة من تجربة التحول الديمقراطي في أفريقيا، تحملنا على الاعتراف أنه باستثناءات محدودة لم تنجح مسارات الديمقراطية التعددية في جل البلدان الأفريقية.
مؤشرات هذا الوضع بادية للعيان: انقلابات عسكرية متتالية في غرب أفريقيا أساساً، حروب أهلية وصراعات داخلية عاتية في مناطق معروفة، مصاعب الانتقال السياسي التي تؤجج الاحتقان والفتنة في أنحاء كثيرة، خيار التناوب السلمي على السلطة معطل في ساحات عديدة.. هل نفسر هذا المأزق الظاهر بعوامل ثقافية واجتماعية، من قبيل عدم نضج البلدان الأفريقية لمسلك الديمقراطية التعددية؟ لا يبدو أن هذه المقاربة سليمة، والحال أن بعض البلدان وإنْ كانت قليلة نجحت في الخيار الديمقراطي (مثل موريشيوس وبوتسوانا والرأس الأخضر وغانا). ولا تختلف التركيبة الاجتماعية الثقافية لهذه البلدان عن الدول الأفريقية الأخرى، كما أن المقاربة الثقافية الجوهرية تحتوي على خطر الإقصاء العرقي والمركزية الحضارية بافتراض اختصاص الإنسان الغربي بقيم الحرية والمساواة والتسامح.
ما أردنا تبيانه في الحلقة النقاشية المذكورة هو أن الأنظمة السياسية الأفريقية تعاملت مع المطلب الديمقراطي من منظور الإجرائية المؤسسية المعيارية دون اعتبار المحددات المطلوبة من الانتقال الديمقراطي نفسه في الواقع الفعلي. ما نعنيه بالاختزال الإجرائي هو الاكتفاء بضوابط التنظيم السياسي من منظومة دستورية وقانونية وتعددية حزبية وانتخابات عامة مفتوحة، وهي في حقيقتها صياغات شكلية أو صورية للنظام السياسي، ولا تضمن لوحدها التحول الديمقراطي المنشود بل قد تكون وسيلة فاعلة لتشريع وتمويه الهيمنة السلطوية. ولقد كان عالم الاجتماع المعروف بيار بورديو قد نبه إلى أن «الأوهام الاجتماعية» قد تفضي إلى تشكيل واقع موضوعي ليس في ذاته وهمياً، بل يقوم على تواطؤ ضمني بين فاعلين متعددي المصالح والرؤى يستفيدون من عملية الاختراع الوهمي السائد. ذلك ما أشار إليه بعض الباحثين (من بينهم عالم السياسة الموريتاني زكريا ولد أحمد سالم) في دراستهم لواقع الديمقراطية الأفريقية الحالية.
ما نريد أن نبينه أن الفكرة الديمقراطية في نسقها الإيجابي تقوم على ثلاث محددات هي: النقاش التداولي الحر، والمشاركة الفاعلة في مسارات صنع القرار، والتمثيل السياسي الشامل والعادل. وهكذا نرى أن مدار الحكم على الواقع الديمقراطي ليس المعايير الإجرائية ذاتها، وإنما مدى تعبير النظام السياسي عن هذه المتطلبات المحورية.
والحقيقة إن هذه المحددات تطرح إشكالات نظرية وعملية معقدة، لم تنفك تزداد صعوبة في الوقت الراهن، سواء تعلق الأمر بطبيعة الممارسة التداولية في مجتمعات التقنية التواصلية المفتوحة أو بصيغ وإمكانات المشاركة المدنية في سياقات تراجع الدولة الوطنية، أو بدوائر التمثيل السياسي في مرحلة انحسار الديمقراطية النيابية في الليبراليات العريقة التي كادت الحياة الحزبية التقليدية أن تختفي فيها.
وفي الساحة الأفريقية التي تهمنا هنا لم تنجح التجارب الديمقراطية إجمالاً في ضمان هذه المحددات الثلاثة، نتيجة لاختلالات إجرائية ونوعية عديدة، من بينها غياب المجال التواصلي المفتوح الذي هو الإطار الضروري لعملية النقاش العمومي، وعدم تمايز الدولة والمجتمع المدني المؤدي إلى تركز الصراع حول موارد السلطة الحاكمة، وضعف البناء الحزبي وعدم استقلاليته عن الهويات القبلية والإثنية.
عندما انتزع السلطة في مالي العقيد «عاصمي غويتا» عام 2020 بعد عقود من الديمقراطية التعددية المتعثرة قال إن فشل تجارب التعددية الانتخابية في بلاده وضع المؤسسة العسكرية أمام خيار صعب بين الفساد والضياع في ظل الشرعية والحكم بالقوة خارج الشرعية ولو لفترات محدودة يقتضيها تسديد وإصلاح النظام الديمقراطي نفسه، بيد أن الحقيقة تكون أحياناً خارج هذا الخيار، حين لا تكون الديمقراطية التعددية سوى تمويه «شرعي» للاستبداد.
*أكاديمي موريتاني