العشرون.. ما حَمَلتْ مِن الأَوزارِ
وجدتها مناسبة، والعِراق يدخل عشرينه (2003-2023)، وقد أنسته الحروب والحصارات وانتهاك العابثين طعم الشَّباب، لأتصفح ما احتفظتُ به مِن صحافة لأكثر مِن أربعين عاماً، مِن صحف النِّظام ومعارضته. خرجتُ واهماً شاكاً بالقدرة على استيعاب ما جرى ويجري. كان فيها العراقي الحائر «فتارة ينزل تحت الثَّرى/ وتارة وسط السَّما يرتقي/ وتارة يبصر في مغرب/ وتارة يبصرُ في مشرق» (النُّويري، نهاية الأرب).
ليس لدينا تصور أنَّ النِّظام القادم، قبل عشرين عاماً، لا تكون له صحيفة، لكنَّ عندما أعيد صدور «المؤتمر»، قال لي نائب رئيس التَّحرير: «إنّها صحيفة النِّظام الجديد»، وما هي أيام وإذا يختفي نائب التّحرير نفسه، باختطاف واغتيال، ولا أتذكر أنّ الصَّحيفة التي بشر بها صحيفة النَّظام القادم قد رثته، وقد تحولت الصّحيفة المذكورة إلى منبر لجماعة ارتكبت الفظائع في الشّهور الأولى.
نشرت «المؤتمر»، الصَّادرة بلندن في عددها الأول بعد السُّقوط مانشيتاً: «اغتيال السَّيد الخوئي داخل ضريح الإمام علي بالنَّجف»(10/4/2003)، وفي العدد نفسه كتبتُ مقالاً: «لا تسمعوا نصيحة سُديف بن ميمون الشَّاعر». كان هذا الشَّاعر يمثل ماكينة الإعلام العباسي والعلويّ الثَّوري الجديد، سبب إبادة كلّ ما اتصل بالأمويين، حتى مَن كان ذا فضل على آل عباس، حيث بيته الانتقامي: «جّرِّد السَّيف وارفع السَّوطَ حتَّى/لا ترى فوق ظهرها أُموِيَّا»(المبرد، الكامل في اللُّغة والأدب)، لكنه قُتل بعدها بالسّيف الثَّوريّ نفسه.
كنتُ واهماً، أنَّ الانتقام ممارسة حكوميّة، ومعارضتها بريئة منها، لأنها في ذهني ستقيم الديمقراطية، الحقيقة لا الوهم، لكن مَن عدّ نفسه مظلوماً صار ظالماً. بات الانتقام وفق قوائمَ معدة قبل دخول بغداد، كلّ فصيل مختص بفئةٍ، بعد تبادل السلطة والمعارضة المواقع، على الحدود، أولئك خرجوا وهؤلاء دخلوا، ملوحين ببيت سُديف.
ردت «المؤتمر» على المعارضين للغزو، وتوقعوا ما حصل: «نحن الملاك الحقيقيون للعراق، نحن أهل العراق مِن الشَّط إلى شقلاوة، نحن أهله وأنتم الغرباء، فعن أي داخل تتحدثون» (8 يناير2001). كان هذا ردّ المعارضة، وهي لا تعرف ماذا جرى للدَّاخل، حتى دخلَ عراقيو الخارج الغرباء، ولم يبقوا مفسدةً لم يمارسوها، إلا النَّدرة النَّادرة.
ورد خبر في «المؤتمر»: التقى ثلاثة عراقيين ببوش الابن، بحضور ديك تشيني، وسألهم عن مخاوف الصِّراع؟ فأجاب مدعو المعرفة بالدَّاخل: «لا وجود لها»(17 يناير 2003). بينما بلندن كانت جماعة محتقنة طائفياً توزع «الإعلان الشّيعيّ»!
في 6 ديسمبر 2002 كتب رئيس تحرير«المؤتمر» في الأفغاني خليل زاد، عراب الفواجع: «هل يدخل خليل زاد بطون العراقيين كما دخل الغزاليّ بطون الفلاسفة»؟ فصدور المعارضة كلٌ يريد حصته مِن جثة العِراق. لا رئيس التَّحرير الفقيه ابن عربيّ(ت: 543هج) قائلها، ولا صدور المعارضة الفلاسفة، ولا خليل زاد أبو حامد. سوى أنَّ العنوان انطوى على تلميع الذَّوات.
أما صحف النِّظام، «الثَّورة» صحيفة الحزب والدّولة، فكانت في عالمٍ آخر، مانشيتها: «الرَّئيس القائد: نمارس الديمقراطيَّة في ظروف الحرب»، وعنوان دعائي «مَن يريد أن يقرأ مخطوطاً أصيلاً لتاريخ العراق المعاصر، يبتدئ بعهد اسمه صدام حسين»! العهد الذي هيأ بحملته الإيمانيَّة وصولاته، وقسوته لخراب عامٍ قادمٍ.
كان أفظع مانشيتات جريدة النِّظام الجديد، لرامسفيلد(ت: 2021): «جئنا لتحرير العراق لا احتلاله»(2/5/2003)، عبارة انتحلها مِن الجنرال مود، يوم احتلال بغداد(1917)، أيام ويعلن «الأبيض» الاحتلال رسميَّاً! والأفظع منه مانشيت: «انتهت الحرب وبدأ إعمار العراق»، وها هي العشرون، وما حملت مِن الأوزارِ، والقول لمَن لا تُطال قامته: «ضِقنا بها ضيقَ السِّجينِ بقيدهِ/ مِن فَرْطِ ما حَمَلَتْ من الأوزار/ وتَجهَّمت فيها السَّماءُ فلم تَجُدْ/ للخابطين بكوكبٍ سيَّارِ»(ذكرى أبو التِّمن 1946).
*كاتب عراقي