الأميركيون واقتصادهم بعد الجائحة
يسود التشاؤم بشأن الاقتصاد الأميركي، ويحذّر المديرون التنفيذيون في وول ستريت، وهم عادة متفائلون، من «مخاطر عالية للغاية» للركود، كما قال ذلك لويد بلانكفين من بنك جولدمان ساكس في الآونة الأخيرة. ويؤكد رئيس شركة «ويلز فارجو» للخدمات المالية أن البلاد تتجه نحو الانكماش «بلا شك». ومال سوق الأسهم بشكل خطير نحو ركود السوق. وكبار رجال الأعمال متشائمون اليوم كما كانوا في بداية الجائحة. والمستهلكون أشد تشاؤماً. والأميركيون يصنفون اقتصادهم بدرجة من السوء تعادل ما كان عليه في فترة الركود العظيم، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى بلوغ التضخم أعلى مستوياته في 40 عاماً. ومن السهل تفسير ما قد يحيق بالاقتصاد من أضرار في المستقبل غير البعيد. وفي سبيل التصدي للتضخم، يقوم الاحتياطي الاتحادي برفع أسعار الفائدة، وحين يبدأ الاحتياطي الاتحادي في الضغط على المكابح، يتبع ذلك ركود في الغالب. والحرب الروسية في أوكرانيا والاضطرابات المستمرة في سلسلة التوريد، وتصاعد الإصابات بـ«كوفيد-19»، وانتهاء ضخ خمسة تريليونات دولار من المساعدات الاتحادية للتصدي للجائحة.. كل هذا يفاقم الضغوط على الوضع المتوتر أصلاً.
لكن الأقل وضوحاً هو كيفية إنقاذ البلاد من الركود حين تتحول الولايات المتحدة فيما يبدو إلى اقتصاد الذين يملكون والذين لا يملكون. والطريق الأكثر مباشرةً لتجنب الركود هو أن يواصل الأميركيون الإنفاق. والناخبون قد لا يروقهم الاقتصاد الحالي ولا ارتفاع الأسعار، لكنهم عززوا إنفاقهم هذا العام. والعلامات التجارية الفاخرة ومتاجر الفخامة، مثل نوردستروم التي تلبي احتياجات المتسوقين المترفين، تبلي بلاءً حسناً. والأمر نفسه ينطبق على كل ما يتعلق بالسفر. فالرحلات الجوية والفنادق ومقاصد الترفيه، مثل مدن ملاهي ديزني، تزدهر فيما وُصف بصيف «السفر الانتقامي». بل إن بعض خطوط الرحلات البحرية تحدثت عن حجوزات قياسية. ويرى جو بروسولاس، كبير الاقتصاديين في شركة «آر. إس. إم.» للضرائب والاستشارات، أنه «لن يحدث ركود، ما لم يتراجع المستهلك، فالاقتصاد الحقيقي يواصل العمل بشكل جيد للغاية».
وهناك الكثير من الأموال في أيدي الناس، مما يساعد على دعم الإنفاق. وهناك سهولة في الحصول على الوظائف وعلى زيادات الأجور. وقد استطاع كثير من الأميركيين توفير قدر أكبر من المال خلال العامين الماضيين لأنهم مكثوا في المنازل، وتلقى كثيرون منهم مساعدات الجائحة ومساعدات أخرى. وتقدر شركة «أكسفورد إيكونوميكس» للتحليلات المالية أن الأسر وفّرت 2.5 تريليون دولار إضافية منذ بداية الجائحة، وأنه لم يُنفق منها إلا 40 مليار دولار حتى الآن. وهذا يمثل وقايةً إضافية أمام ارتفاع الأسعار. وتمتلك الشركات وحكومات الولايات والحكومات المحلية قدراً كبيراً من الأموال الإضافية لإنفاقها أو لإعادتها إلى حملة الأسهم والسكان. صحيح أن الإنفاق العام ما زال قوياً، لكل ليس لدى الجميع ما يكفي من المال لإنفاقه. فالمتسوقون في وول مارت يقلصون مشترياتهم من كل شيء ما عدا الطعام والأساسيات الأخرى. والأمر ينطبق على المدخرات. فحتى بعد انخفاض سوق الأسهم، مازال هناك فائض من الأموال لدى نسبة 40% من الأعلى دخلاً في البلاد. وفي المقابل، تبخّرت المدخرات التي تراكمت خلال العامين الماضيين لدى نسبة 20% الأقل دخلاً، بحسب ما توصلت إليه شركة مورجان ستانلي.
والعمال الذين يحصلون على أجرهم مقابل كل ساعة عادة من ما يعيشون حالة حد الكفاف خلال فترات التضخم المرتفع. ويجدون صعوبةً في تحمل الكلفة المتزايدة للغاز والطعام والإيجار، ولا يمكنهم تقليص نفقاتهم الأساسية. ومع تباطؤ الاقتصاد، يشهدون تقلصاً في قدرتهم على المساومة للحصول على أجور أعلى وتقلصاً في ساعات عملهم في بعض الصناعات. والأثرياء حالياً يواصلون الشراء بكثرة، وهذا ما يمنع الاقتصاد من الهبوط عموماً. لكن هذا الإنفاق قد يتبخّر بسرعة أيضاً.
دعونا ننظر إلى سوق العقارات، فبين عشية وضحاها تقريباً، توقفت حروب المزايدات المحمومة وجفت مبيعات المنازل هذا الربيع مع تراجع المستهلكين أخيراً أمام ارتفاع الأسعار وارتفاع سعر فائدة الرهون العقارية. ولا شك في أن الاقتصاد الأميركي يمر بتحول كبير، بل بتحولات متعددة في الواقع. وهناك تراجع للدعم الحكومي على ثلاث جبهات: فالاحتياطي الاتحادي يرفع أسعار الفائدة ويوقف برنامج شراء السندات، والإنفاق الاتحادي العام يتقلص.
وفي الوقت الذي تختفي فيه بعض المساعدات، يغير الأميركيون عاداتهم. فبعد عامين من البقاء في المنزل وإنفاق الكثير على السلع، يغامرون الآن مرة أخرى بالخروج وينفقون على الخدمات. وننتقل من اقتصاد اقتصاد «نتفليكس» إلى اقتصاد السهر بالخارج. وقد عبّرت شركات البيع بالتجزئة، مثل «تارجت»، عن صدمتها من مدى سرعة تحول نمط الإنفاق. والفترات الانتقالية صعبة دائماً، وهذه الفترة من الصعب فهمها بشكل خاص. فإلى متى يستمر المستهلكون في الإنفاق؟ وهل تحول العائلاتُ ببساطة إنفاقَها من تجديد المنزل والفناء الخلفي إلى تناول الطعام بالخارج والسفر؟ أم يحتمل أن يمسك المستهلكون عن الإنفاق قريباً؟ وإذا انخفضت سوق الأوراق المالية وأسعار المنازل هذا الصيف، فهل يكفي هذا لإقناع المستهلكين بالتوقف عن إنفاق أموالهم المتوافرة لديهم؟
ومع تراكم التحذيرات من الركود، من المهم أن نضع في اعتبارنا الأمورَ المهمةَ للاقتصاد الحقيقي، وهي التوظيف وإنفاق المستهلك. من الجيد، بل والمفضل، للاحتياطي الاتحادي أن ينخفض تصنيف التوظيف وإنفاق المستهلك من قوي إلى متين. وطالما أن الطبقة الغنية والمتوسطة تواصل الإنفاق، فمن المحتمل ألا يكون هناك ركود. لكن هذا لا يعني أن الاقتصاد سيكون جيداً لكثير من الأميركيين، بل لمعظمهم.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»