العطاء والإنسانية في صمت
ودَّعت دولة الإمارات، أمس الجمعة الموافق 13 مايو الجاري المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي انتقل بالدولة من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التمكين، فحقق الكثير من الإنجازات في المجالات كافة، ورحل تاركاً خلفه دولة مزدهرة إلى أبعد حد وبطموح لا يحده سقف.
لقد كتب وتحدث كثيرون عما شهدته دولة الإمارات من تطوير جذري في عهده، رحمه الله، على الصُّعد كافة، كما تحدثوا عن بعض مناقبه الأثيرة، وركز بعضهم، عن حق، على خصلَتَي العطاء والإنسانية اللتين ميّزتا شخصيته الثرية، حيث اتسم طيب الله ثراه، بغلبة الجانب الإنساني ما جعل من العطاء غير المحدود قيمة سامية لديه.
وتُعدُّ مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية، التي تأسست عام 2007، شاهداً على هذه الحقيقة، حيث قامت هذه المؤسسة -التي تتركز استراتيجيتها في مجالَي الصحة والتعليم محليّاً وإقليميّاً وعالميّاً -بدور حيوي في دعم المجتمعات الفقيرة والمحتاجة في توفير البنى التحتية الأساسية مثل المدارس والمستشفيات وغيرها. وقد وصلت مساعداتها حول العالم إلى أكثر من 87 دولة منذ بداية نشأتها وإلى يومنا هذا.
كما تُعدُّ المساعدات الخارجية التي قدمتها دولة الإمارات مؤشراً مهماً إلى تنامي الطابع الإنساني لسياسة الدولة في عهد الراحل الكبير، وتؤكد المعطيات الرقمية أن قيمة المساعدات الخارجية التي قدمتها الإمارات خلال الفترة من 2010 إلى 2021 نحو 206 مليارات و34 مليون درهم، «بما يعادل 56.14 مليار دولار أميركي»، إلى جانب توفير الدعم التنموي والإنساني والخيري في عددٍ من الدول النامية، من بينها 50 بلداً أقل نموّاً.
وتدل النهضة الشاملة التي شهدتها دولة الإمارات في عهد المغفور له، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، على نجاح ما اتَّبعه من سياسات رشيدة، حيث أطلق، رحمه الله، بعد توليه الحكم خطته الاستراتيجية الأولى من أجل تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة، وتوفير كل الخدمات من تعليم وصحة وإسكان، لضمان تحقيق الرخاء للمواطنين، فجعل من الإمارات منارة للعيش الكريم، كما جعل منها أرضاً للفرص النادرة لمن يبحثون عن النجاح وتحقيق الطموحات، ومجتمعاً تسوده قيم التسامح والتعايش.
وتوالت النجاحات في عهد الراحل الكبير حتى تبوأت الإمارات مراكز الصدارة في مؤشرات التنافسية، وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة العربية، وتشير المؤشرات الإحصائية إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي للإمارات بالأسعار الثابتة بنسبة 87 في المئة إلى 1.49 تريليون درهم بنهاية عام 2021، مقابل 727 مليار درهم بنهاية عام 2004، بحسب بيانات المركز الاتحادي للتنافسية والإحصاء.
وقد شملت هذه النجاحات كذلك مجالات كانت حكراً على الدول المتقدمة، ومنها تطوير اقتصاد معرفي قائم على الابتكار وأحدث التقنيات، وتوظيف التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، واقتحام مجال الفضاء لتصبح الإمارات أول دولة عربية وإسلامية تصل إلى المريخ، بفضل خطط تنموية محكمة ومبادرات وبرامج متتالية لتحقيق المزيد من التميز، ومنها برنامج التمكين، الذي وضع الركائز الأساسية لانطلاقة جديدة لدولة الإمارات، وأفسح المجال للمرأة، التي تمثل نصف المجتمع، لتقوم بدور غير مسبوق في دعم عملية التنمية الشاملة.
ولعل تأكيد الكثيرين ممن نعوا الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، على كونه «رائد التمكين» يعكس بحق طبيعة النقلة الهائلة التي كان من أبرز معالمها تفعيل دور المجلس الوطني الاتحادي وتمكينه، ليكون أكثر قدرة وفاعلية والتصاقاً بقضايا الوطن وهموم المواطنين، من خلال مسار متدرّج منتظَم، وضع اللبنة الأساسية في سبيل ترسيخ عصرنة الدولة، والانتقال بنموذجها التنموي إلى مرحلة أكثر نضجاً.
إن الانطلاقة الكبرى التي حققتها الدولة في عهد المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، تجعل من الراحل الكبير المؤسس الثاني لدولة الإمارات، التي قامت بجهود والده القائد المؤسس المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كواحدة من النماذج الوحدوية الملهمة، ليس فقط على الصعيد العربي، بل على الصعيدين الإقليمي والدولي أيضاً.
ولا يمكن الحديث عن عهد المغفور له، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، دون الإشارة إلى التطورات الكبيرة التي شهدتها السياسة الخارجية لدولة الإمارات طوال العقدين الماضيين، حيث نشطت الدولة وأصبح لها دور أكثر فاعلية على الصعيدين الإقليمي والدولي، فأسست لعلاقات استراتيجية راسخة مع القوى الدولية، ورسَّخت علاقاتها مع الأشقاء العرب والشركاء الإقليميين، والأبرز في هذا السياق دورها الكبير في نشر قيم التسامح والتعايش، ولعل من أهم المؤشرات في هذا السياق، وثيقة الأُخوّة الإنسانية، وهي بيان مشترك وقّعه في أبوظبي في الرابع من فبراير عام 2019، كل من شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الإمام الأكبر للأزهر، والبابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، بهدف ترسيخ قيم التعايش والتآخي على صعيد العلاقات بين الدول والشعوب، والتي على هَدْيٍ منها اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بالإجماع يعلن يوم 4 فبراير «اليوم الدولي للأخوّة الإنسانية».
لقد أدار المغفور له، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، منذ تَسَلَّم الراية في 4 نوفمبر 2004، دولة الإمارات بحكمة بالغة ورثها عن أبيه القائد المؤسس المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ولعل الحزن العارم الذي عَمَّ أرجاء العالمَيْن العربي والإسلامي وما عبَّر عنه قادة العالم من مشاعر الحزن بفقدهم لقائد كبير، كل ذلك يعكس المكانة المتميزة التي تحتلها دولة الإمارات الآن على الصعيدَيْن الإقليمي والعالمي، والتي تبوأتها بفضل السياسة الرصينة التي اتبعها الراحل الكبير.
وبرحيل المغفور له، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، تطوي دولة الإمارات مرحلة حافلة بالإنجازات، تمثّل ركيزة أساسية لانطلاقها نحو تحقيق أهدافها الكبرى في ظل القيادة الرشيدة ممثَّلة في صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة «حفظه الله»، خلال نصف القرن الثاني لتأسيسها، الذي تسعى الإمارات في نهايته إلى أن تكون الدولة رقم واحد على مستوى العالم.
رحم الله فقيدنا الكبير الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وأسكنه فسيح جناته، وألهم شعب الإمارات الصبر والسلوان.
كاتب إماراتي