في حديث مع مسؤول أوروبي كبير على هامش منتدى أصيلة في المغرب الذي التأم مؤخراً، جرى الحديث عن أوضاع الاتحاد الأوروبي الراهنة، في ضوء الانسحاب الأميركي البارز من القارة وتراجع المنظومة الأطلسية. لقد اعتبرت الشخصية الأوروبية المذكورة أن ما يجري حالياً يعني شيئاً واحداً هو انهيار المنظومة الاندماجية الأوروبية التي قامت في السابق حول نواة فرنسية ألمانية وتحت رعاية أميركية.
ويرى محدِّثي أن تجربة «البريكست» لم تُفهَم على حقيقتها، ذلك أن انسحاب بريطانيا يعني عملياً تحطم خطوط التوازن داخل المشروع الأوروبي، بحيث أصبحت فرنسا هي البلد الأوحد في المنظومة الأوروبية الذي يتمتع بميزتي العضوية الدائمة في مجلس الأمن وامتلاك السلاح النووي. وباعتبار أن فرنسا تحتاج إلى الشراكة الألمانية اقتصادياً واستراتيجياً، فإن نهاية عهد المستشارة انجليكا ميركل سيكون خاتمةَ العلاقات الاستثنائية بين ضفتي نهر الراين.
كانت ميركل هي آخر رموز الجيل السياسي في ألمانيا الذي يتشبث بالمظلة الأطلسية وبالروابط الخاصة مع فرنسا في إطار مشروع الوحدة الأوروبية، والتوجه مستقبلا هو انغلاق ألمانيا في مجالها الحيوي في وسط وشرق أوروبا وتوطيد شراكتها مع روسيا في مقابل النفوذ الأميركي. ومن هنا يرى محدِّثي أن أوروبا ستعود إلى قسمتها التاريخية بين أوروبا جنوبية متوسطية تتركز حول فرنسا وإسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا، وأوروبا شمالية وشرقية تعتمد اقتصادياً على ألمانيا واستراتيجياً على روسيا رغم نفور بعض بلدان المعسكر الاشتراكي السابق من الهيمنة الروسية (بولندا ودول البلطيق).
سألني محاوري الأوروبي: ماذا ستكون مواقف دول المغرب العربي والشرق الأوسط بمفهومه الواسع من هذه التحولات الاستراتيجية الكبرى التي تتمثل في تحلل المنظومة الأطلسية وتفكك البيئة الإقليمية الأوروبية وانتقال مركز الصراع الدولي إلى المحيط الهادئ؟
بينتُ لمحاوري أن الرؤية الاستراتيجية لدول المغرب العربي قامت في الثلاثين سنة الأخيرة على الشراكة الخاصة بدول الاتحاد الأوروبي والسعي لبلورة منظومة متوسطية مشتركة بين المجالين. وقد أصبح من الجلي بعد تعثّر بناء المغرب العربي وانتكاسة المشروع الأوروبي أن الكتلتين مضطرتين لدفع مبادرات الشراكة والتعاون بينهما لأسباب موضوعية جدية، حتى ولو كان صعود اليمين المتطرف في البلدان الأوروبية ليس في صالح هذا المسار التاريخي الذي لا بديل عنه في المنظور البعيد.
سألني الصديق الأوروبي: كيف سيكون موقف دول شمال أفريقيا من الصراع الاستراتيجي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين في المعترك الأفريقي، وهو صراع تطل عليه روسيا أيضاً من خلال ورقتها العسكرية الأمنية التي استخدمتها في عدة ساحات أفريقية مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي؟
نبهتُ الصديق الأوروبي إلى أن دول شمال أفريقيا ستحاول في الغالب النأي بنفسها عن هذا الصراع، فلا هي تشكل محوراً فاعلاً في اللعبة الدولية الجديدة، ولا من مصلحتها الدخول في أحلاف وكتل استراتيجية متعادية، ومن هنا الميل إلى إقامة علاقات متوازنة بالأطراف الثلاثة تختلف بحسب مصالح وخيارات الدول. بيد أن التوجه المتوسطي الأوروبي المغاربي في صيغته المتجددة لا يمكن أن يكون فاعلاً ولا مجدياً إلا ضمن شراكة موسعة وناجعة مع أفريقيا جنوب الصحراء. وما يحدث اليوم هو تراجع نفوذ القوى الاستعمارية الأوروبية السابقة في أفريقيا، أي إسبانيا والبرتغال.. وفرنسا على الأخص، بما يوفر حظوظاً وفرصاً غير مسبوقة لدول المغرب العربي في القارة السمراء، وهو ما أصبح حقيقةً ملموسةً بالنسبة للمغرب الذي انتزع صدارة التبادل التجاري مع الدول الأفريقية.
سألني الصديق الأوروبي: وما هي انعكاسات هذه التحولات الإقليمية على الدائرة العربية الموسعة، في مرحلة تشهد بروز معادلات جديدة من سماتها: المقاربات المطروحة في شرق المتوسط والبحر الأحمر والخيارات الديبلوماسية المطروحة في آسيا الوسطى؟
لقد كان ردي على الصديق الأوروبي أن المنظومة الإقليمية العربية حتى ولو كانت متعطلة لأسباب معروفة لا تحتاج لبيان وتحليل، فإنها تظل الأفق الاستراتيجي لسياسات كل الدول العربية مشرقاً ومغرباً. وعلى الرغم من الأزمات الحادة التي تعرفها العديد من البلدان العربية راهناً، فقد استطاعت دول الاعتدال العربي الفاعلة أن تحافظ للنظام العربي على استمراريته كما قامت بالتدخل المناسب في عدة ساحات للدفاع عن الشرعية أو حماية الانتقال السياسي أو صد الأطماع الخارجية. فالمطروح اليوم هو ترميم المنظومة الإقليمية العربية وتهيئة العرب لأداء دور استراتيجي فاعل في الخارطة الحيوسياسية للعالم الجديد.
أكاديمي موريتاني