بعد أنَّ شطب بول بريمر، الحاكم الأميركي على العراق(2003-2004)، قانون التجنيد الإلزامي، أسوةً بشطب الدَّولة برمتها، عادت الحكومة العراقيَّة اليوم إلى العمل به، فإذا كان مِن ردود أفعال ضد تطبيقه، فمرده إلى ما عُرف بـ«السّفر برلك» (النَّفير العام) العثمانيّ، وهو ترحيل المجندين إلى أصقاع الإمبراطورية المتباعدة، ونادراً يعودون إلى ديارهم، إلى جانب استخدامهم في أعمال السخرة الشبيهة بالعبودية.
حاول ولاة العراق العثمانيون تطبيق التجنيد الإلزامي، ولم ينجح إلا مدحت باشا(قُتل: 1884)، باستخدام «القُرعة» بين القادرين على الخدمة(العزاوي، العراق بين احتلالين)، ومع ذلك «حمل الكثير من الأهالي أسلحتهم وقاموا بمظاهرة، تتقدمهم الطبول، وهم يهوسون (يهزجون) تحدياً للحكومة»(الوردي، لمحات اجتماعية مِن تاريخ العراق الحديث، عن مذكرات مدحت باشا). ثم دُعي إلى «السفر برلك» في (2/8/1914) مع نشوب الحرب الأولى، وكان يصاحب إعلانه تعطيل الزراعة والتّجارة، والإجبار على دفع الإتاوة لسد النفقات، مع سَوق الشَّباب، عماد الأعمال، إلى الحرب.
ترك هذا القانون كراهية في النفوس، بعدها حاولت الدولة العراقية فرضه في العشرينيات، فاعترض عليها البريطانيون، ولم تستطع تنفيذه إلا بعد الخروج مِن الانتداب، فطبقته العام (1934)، لتوسيع الجيش وتمكينه(أوراق اللواء خليل جاسم الدباغ). كان أصحاب الشهادات معفيين من الخدمة العسكرية، حتى صدور القانون الجديد(1969)، فخضع الجميع لخدمة «العلم»، وهو أحد مسميات القانون، بما فيهم طلبة الحوزة الدِّينية، وهذا حجةَ مَن تحدث عن القانون بأنه طائفي.
لهذا الأمر قابل محمد مهدي الحكيم(اغتيل: 1988)، رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر(ت 1982)، حال صدور القانون الجديد، طالباً إعفاء طلبة الدراسة الدِّينية، على أنهم يخدمون الدِّين، فاعفوا حتى مِن الجهاد! فامتدح البكر الجهاد، لكنَّ الحكيم قال: هذا كان في الماضي، أما القانون اليوم فهو عقوبة، ولما استغرب البكر، رد الحكيم: «إن القانون يقول: إن كلَّ فرد يتخلف عن الخدمة العسكرية، تضاعف له الخدمة. فهل يمكن إصدار قانون أن كلّ وزير لا يباشر في وزارته لمدة سنة، فسوف نعاقبه بأن نجعل وزارته للوزارة سنتين... فإذا كانت الخدمة العسكريَّة شرفاً، فيجب أن تقولوا: إنَّ مَن لا يلتحق بهذا الشَّرف، فهو لا يستحقه، وهذا ما صنعه القرآن حينما تتخلف جماعة عن الجهاد». فاستحسن البكر الملاحظة، وسجلها(مذكرات محمد مهدي الحكيم).
لا أجد لمَن حاول ربط هذا القانون بالمسألة الطائفية، على أن السُّنة وراء رسمه، أرى في الطّرح قصر نظر، فالقانون كان وطنياً، مع خشية عامة مِن تطبيقه بأثره العثماني، ثم الحروب التي مرت على العراقيين، التي يبقى المجند فيها سنوات بلا تسريح. كان الجندي المساق إلى الجيش يُسمَّى مكلفاً، مِن التَّكليف الذي يترك شعوراً بالإحباط.
إنّ للخدمة العسكريّة الإلزامية دوراً في تمتين الآصرة الوطنية، وذلك باختلاط أبناء العراق، مِن مختلف المذاهب والقوميات والأديان، وكم يكون هذا التعايش مثمراً لبلد مثل العِراق، الذي أخذت تمزقه النزاعات الفئوية، ناهيك عن الفوائد الأُخر. هذا، إذا طُبق القانون بما يختلف عن السابق، مِن ناحيَّة معاملة المجند بشكل حضاريَّ، وبراتب مجزي، لا يؤخذ كأنه مساق إلى حتفه، ويكون يوم تسريحه سروراً، بينما أيّ موظف آخر يكون يوم إنهاء خدمته حزناً، فإذا تحقق العكس فالتَّجنيد الإلزامي سفر عراقي، لا «سفر برلك» عثمانيّ.
كاتب عراقي