لا يوجد وطن يخاطب مواطنين كما تخاطب مصر المصريين. ولا يوجد مواطنون يخاطبون وطنهم، كما يخاطب المصريون مصر. هذه العلاقة المتبادلة بين مصر والمصريين، وهذا الحوار المستمر بين المصريين ومصر هو الذي أبدع الأدب والفن والسياسة منذ «شكاوى الفلاح الفصيح» في أدب مصر القديم حتى رسالة قاسم أمين في باريس «مصر للمصريين» كشعار تبناه الأفغاني، وهو ليس مصرياً بالجغرافيا، لكنه أدرك هذه العلاقة، فأصبح مؤسس الحركة الوطنية الحديثة ومؤسس حزبها الوطني الذي صاغ تلميذه محمد عبده برنامجَه السياسي.
إن «مصر تتحدث عن نفسها» ليست قصيدة شعر لحافظ إبراهيم، ولكنها تعبير عن أحوال مصر المعاصرة وعن وعيها التاريخي بين الماضي والحاضر، عن ذاكرتها خوفاً عليها من الفقد والضياع. وعندما يتحدث الوعي التاريخي فإنما ذلك نهاية لمرحلة وبداية لأخرى كما هو الحال عند أرسطو مؤرخاً لليونان، وابن رشد مؤرخاً للمسلمين، وتونينبي وشبينجلر وروسل وهوسرل وبرجسون.. مؤرخين للوعي الأوروبي الحديث الذي تمثل ثورة المعلومات وصراع الحضارات ونهاية التاريخ آخر صيحاته التي كشفت عن بداية النهاية في التفكيك وما بعد الحداثة. وهو ما يتزامن مع بداية وعي جديد في العالم العربي والإسلامي مركزه مصر بعد أن عزّت المراكز الأخرى التي كان يمكن أن تكوّن قطباً ثانياً في أميركا اللاتينية من حلم جيفارا القديم ولكنها مشغولة بالفقر والقهر والمخدرات، أو في أفريقيا بعد تحرر جنوبها، ولكن أنهكتها الحروب الأهلية والقبلية والقتل على الهوية والفقر والتصحر والأمراض، أو في آسيا والنمور الآسيوية التي تقوم على الاقتصاد قبل السياسة والصناعة قبل الفكر.
لذا لم يبق إلا العالم العربي والإسلامي القادر بحيويته ونشاطه وتساؤلاته ونهضته، بالرغم مما يبدو عليه في الداخل والخارج من نقائص في الحرية والعدالة والاستقلال والاعتماد على الذات، هو المرشح لإمكانية قيام قطب ثان في عالم متعدد الأقطاب.
وتتحدد السياسة الداخلية والخارجية بشخصية الشعوب أيضاً وليس فقط بأنظمة الحكم. وهناك العديد من السمات في مصر والمصريين يمكن رصدها، وهي أشبه بالوصايا التي يمكن تأسيس أنساق كاملة من الأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون والتاريخ عليها. إنها مبادئ عامة، ودستور غير مكتوب، وعُرف شعبي، بل شريعة ضمنية جعلت مصر والمصريين باقيين على مدى التاريخ، وعلى الرغم من عواصف الدهور وغوائل الزمان.
إن من بدهيات الفكر ومسلماته الأولى أن يتحد الشيء مع ذاته قبل أن يتمايز مع الآخر، وهو ما سماه الفلاسفة من قبل الهوية والاختلاف. الهوية أن يكون «أ» هي «أ»، والاختلاف أن تكون «أ» ليست «ب». فوجود الأنا سابق على وجود الآخر، معرفياً في إدراك الذات، «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، وهو الكوجيتو الشهير عند ديكارت، ووجودياً «الذات تضع نفسها حين تقاوم»، وهي العبارة الشهيرة عند فشته للتعبير عن مقاومة الألمان لاحتلال نابليون. وهو ما عناه القرآن الكريم في الآية «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم». ومن ثم فإن علاقة الذات مع نفسها تسبق علاقتها مع الآخر.
وقد ظهر ذلك أيضاً في تاريخ الفكر السياسي بأولوية البناء الداخلي على العلاقات الخارجية، والبداية بالسياسة الداخلية من أجل تدعيم السياسة الخارجية. هكذا فعلت مصر محمد علي، ومصر عبدالناصر، أي الاستعداد الداخلي قبل المشروع الوطني، الإعداد داخل الحدود قبل الانطلاق خارجها. هذا الجدل بين الداخل والخارج مستمر عبر التاريخ؛ فإذا ما أصبح للخارج الأولوية على الداخل حدث رد فعل، أي العودة إلى البناء الداخلي: نابليون بعد ووترلو، مصر بعد معركة نوارين، ومصر بعد عبد الناصر. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في آية «وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون»، وأيضاً: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم». لذلك أصبح شعار الحركة الإصلاحية البداية بالنفس قبل البداية بالعالم «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وأيضاً «أتدعون الناس للبر وتنسون أنفسكم»، استئنافاً لقول المسيح: «ماذا تكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟».
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة