الدولار عملة دولية قوية، وهو يمنح الولايات المتحدة نفوذاً مالياً وسياسياً كبيراً، وقد وصفه الخبراء بأنه «سلاح قاتل» يمكن استخدامه في الحروب الاقتصادية، وقوة ضغط في المعارك العسكرية، على الرغم من أن هذا السلاح بدأ يواجه منافسة استراتيجية من عملات أخرى تسعى إلى اقتسام النفوذ معه.
لا شك في أن النفوذ السياسي ينعكس على النقد، الذي تبرز قوته ارتفاعاً في مستوى المعيشة، ولوحظ أنه حتى بدء الحرب العالمية الأولى كانت بريطانيا الأقوى، وكان نقدها الأهم، لكن «القوة السياسية» انتقلت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة وأصبح الدولار هو النقد العالمي الأهم، واستمر كذلك لعدة عقود تالية.
عندما تسلم الرئيس دونالد ترامب الحكم في يناير 2017، بدأت المخاوف من استعداد الولايات المتحدة للتخلي عن سياسة «الدولار القوي» التي تبنّتها على مدى عقدين من الزمن. لذلك توقع المحللون أن يتجه سعر صرفه نحو الانخفاض في المستقبل، وبنسبة تصل إلى 20%. وينطلق ترامب من أن أزمة الاقتصاد الأميركي، تكمن في ضعف الصادرات التي يجب تشجيع زيادتها، وبرأيه فلن يتم ذلك إلا من خلال آلية واحدة، وهي خفض قيمة الدولار مقارنةً بالعملات الأخرى، وبالتالي تصبح أسعار الصادرات الأميركية أقل من نظيرتها العالمية مقيَّمةً بأي عملة دولية منافسة، مما يؤدي إلى احتدام المنافسة التجارية التي يعتبر حلفاء في «مجموعة العشرين الكبار» أنها حرب اقتصادية مباشرة وحرب عملات، ربما لم يشهدهما العالم منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
وقبل أن يتسلم ترامب الحكم، جاءت أرقام العام 2016 لتعزز قناعته، إذ بلغ العجز التجاري الأميركي أعلى مستوياته، مسجلا 502 مليار دولار، وبرزت أهمية الصين التي تسببت بنحو 70% من هذا العجز، وبحصة بلغت 347 مليار دولار. وقد عزز هذا الخلل الكبير حجج واشنطن التي تتهم بكين بممارسات تجارية «غير نزيهة». لكن في نهاية ولايته الأولى، وهو يخوض معركة الولاية الثانية، يثار السؤال: هل حقق ترامب أهدافه؟
الواقع أن التطورات لم تساعد ترامب في تحقيق أهدافه، خصوصاً مع الانتشار العالمي لفيروس كورونا منذ أكثر من 8 أشهر، والذي أدى إلى تقلبات حادة في الأسواق المالية، خلال عمليات الإغلاق الاقتصادي. وحيال ذلك لوحظ ارتفاع العجز التجاري الأميركي من 37 مليار دولار في فبراير إلى 67 ملياراً في أغسطس، وهو الأكبر خلال 14 عاماً. وارتفع العجز التجاري مع الصين إلى 28.3 مليار دولار مع ارتفاع الواردات منها بنحو 37.8 مليار دولار، لتبلغ 260 مليار دولار.
ولعل الأخطر من تداعيات الحرب التجارية هو أزمة تراكم الدين العام الذي كان أقل من 19.8 تريليون دولار عندما تسلم ترامب منصبه، وقد ارتفع إلى 26.9 تريليون دولار حالياً، نتيجة ارتفاع عجز الموازنة بنسبة 218% ليسجل رقماً قياسياً بلغ 3.1 تريليون دولار في السنة المالية المنتهية في سبتمبر الماضي، وذلك بسبب زيادة الإنفاق وتراجع عائدات الضرائب. في حين سبق لترامب أن وعد الأميركيين بتسديد هذا الدين وإغلاق ملفه بسهولة خلال 8 أعوام، وكأنه بذلك كان يروِّج لتجديد ولايته بحيث يترك الحكم في مطلع عام 2025، دون أن يورث خلَفه ديوناً ثقيلة كما فعل سلفه باراك أوباما. لكن خلافاً لذلك، تجاوز الدين العام حجم الاقتصاد الذي تقلص إلى أقل من 20 تريليون دولار.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية