في إطار تحديات الإصلاح الاقتصادي والمالي والاجتماعي التي تواجهها حكومة لبنان المرتقبة برئاسة مصطفى أديب، تبرز أهمية مخاطر النظام النقدي القائم وضرورة إصلاحه، خصوصا بعدما أدت «الدولرة» إلى إفقار أكثر من نصف الشعب اللبناني، نتيجة تدهور سعر صرف الليرة ومضاعفة معدلات التضخم، وإقدام البنك المركزي على الإفراط في طباعة العملة الوطنية، حتى تضاعف حجم الكتلة النقدية خلال سبعة أشهر(يناير يوليو)، ووصل إلى نحو 20 ألف مليار ليرة، أي أن مصرف لبنان خلق نقداً إضافياً في السوق بمعدل 1571 مليار ليرة شهريا.
وينطوي هذا المسار في بلد ذي اقتصاد «مدولر» على شيء من الانتحار، لاسيما في ظل سيطرة العملة الأميركية على 75% من التداول، مقابل فقط 25% بالليرة. وإذا كان مصرف لبنان قد لجأ إلى طباعة النقد من أجل إطفاء الودائع بالدولار، كون المصارف توظف لديه 89 مليار دولار، فإن ذلك رتب أثرا بالغا على سعر الصرف، وهي نتيجة طبيعية لوجود علاقة قوية بين ارتفاعه، وبين تضخم حجم النقد المتداول بالليرة، وهي علاقة تناقصية، إذ كلما ازداد حجم النقد، كلما انخفضت قيمة الليرة وارتفعت قيمة الدولار.
وهكذا وصل النظام النقدي في لبنان إلى طريق مسدود، وهو مصير متوقع، لأسوأ نظام في العالم، كما وصفه بعض الخبراء، حيث اعتمد طيلة ثلاثة عقود ماضية، على سعر صرف ثابت تتعايش فيه عملة محلية ضعيفة مع عملة عالمية قوية. وتزداد خطورة النظام النقدي «المزدوج» بعدما ولد «ريوعا» ومداخيل ناتجة عن ثنائية العملة، وليس عن الجهد الإنتاجي الداخلي، الأمر الذي أوصل لبنان إلى مشارف نهاية مؤلمة، في مواجهة «مشكلة نقدية معقدة»، وصفها البنك الدولي بـ«الكارثة المالية» منتقدا«التلكؤ» في الاستجابة لاحتوائها، في حين أعلن صندوق النقد تمسكه بضرورة توحيد سعر صرف الليرة و«تعويمه»، بما يؤدي إلى توفير الاستقرار المالي، ويسهم في جذب الاستثمارات الخارجية، لحل مشكلة العجز الكبير في ميزان المدفوعات. وبينما يرى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأزمة النقدية بأنها «أزمة عابرة تحتاج إلى بعض الإصلاحات حتى نستطيع وضع السعر الموحد للدولار»، يتوقف المراقبون والخبراء عند التحذير من احتمال نفاذ الاحتياطي النقدي ووقف دعم المحروقات والقمح والأدوية، خلال أقل من ثلاثة أشهر مقبلة، ما يؤدي إلى مضاعفة سعر الدولار، وبما يشكل خطراً كبيراً على قيمة العملة اللبنانية.
وعلى رغم ذلك، تقوم المصارف حالياً بتحويل قسري للودائع بالعملات الأجنبية إلى الليرة ودفعها عند الاستحقاق، وبما يؤدي في ظل الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية الراهنة، إلى تفاقم المشكلة بدلاً من حلها، لأن الإلغاء القسري لـ«الدولرة»، يعد إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل حول العالم، وقد نفذته دول عدة، ودفعت ثمناً غالياً، ثم اضطرت للرجوع عنه.
وتبقى المشكلة الحقيقية، تكمن في بنية النظام النقدي وفي استخدام الدين العام لبلوغ أهداف نقدية على حساب سلامة أوضاع الخزينة، لذلك يجب وقف سياسة تشجيع «دولرة» الاقتصاد، والتخلي تدريجياً عن نظام النقد «المزدوج»، علما أن الخروج من فخ الديون، واستعادة النمو، يتطلبان تغيرات جذرية في الإدارة المصرفية والنقدية، وكذلك في إدارة الدين العام بما يتيح إمكانية تسديد أصل الدين مع قدرة الدولة على تحمل خدمته، من دون الاضطرار إلى مزيد من الاستدانة.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية