الصحراء حكيمة وعالم من المعرفة الواسعة على امتداد الرمل. هذا الفضاء المفتوح وهذه المباشرة بين ناس الصحراء وطبيعة البيئة، تجعل الفرد من أبنائها يعلم ويدرك مفردات الأرض والناس والكائنات الصحراوية.
هكذا تبدو الأمثلة واستمرارها في التوارث الاجتماعي، حتى وإن اضمحل الكثير واختفى، لكن بعضها مازال قوياً. كنت أسمع ذلك المثل (والله ولحمة الضب) منذ الطفولة ولم أدرك لماذا قالوا هذا المثل الصعب، والذي يحتاج إلى تجربة للوصول إلى المعنى والقصد بالضبط. في ذلك العمر الصغير، الذي لا يتجاوز السنوات العشر تقريباً، وفي بيئته الشعبية التي تجمع بين البحر والصحراء (أم سقيم)، كان لأحد المعارف والدة تسكن الصحراء، منطقة بعيدة في قلب الرمل تسمى (غفر). رفضت أمه (سلامة) سكن الساحل والبحر وظلّت في الصحراء ترعى (الحلال)، ماعز وإبل، حملت سيارة الجيب الماء إليها كالمعتاد في مطلع كل شهر، ذهبت معهم، وفي شوق لأشاهد الصحراء وتلك الطبيعة الحالمة بالنسبة لي وقتها، وصلنا عند الغروب، كان القدر يرسل دخانه إلى السماء ورائحة المرق تسري إلينا، فترة قصيرة ومدت سفرة الطعام، أرز وصالونة لحم، لم أدرك ما هذا اللحم الذي تم إعداده. صبّ كل محتوى قدر الصالونة على الأرز الكثير الذي ملأ الصينية، وتحلّق عدد من الحضور حوله. ظهرت قطع لحم الضب، الصدر والفخذ والأرجل والذنب، نهش الجميع لحم الضب وأنا معهم، كان صعب التقطيع والأكل، وكأنك في معركة بينك ولحم الضب، قاسٍ جداً ويحتاج إلى أسنان حادة، صحيح أن طعم الصالونة والأرز كان جميلاً بعد جوع الطريق والصحراء، ولكن لحمة الضب قاسية مثل الصحراء والجوع كافر!!.. عندها أدركت معنى المثل الصحراوي (والله ولحمة الضب)، يقال هذا المثل عندما يكون الموصوف أو المنعوت أو المعني بالمثل، بخيل وشحيح ورجل لا يرتجى منه أمل أو لا خير فيه.. ومن الصحراء ومعانيها وقوتها وصلابتها ظهر الرجال الذين يقال لهم: والله والنعم وسبعة أنعام.