أسدلت باريس الستارة على النسخة الثالثة والثلاثين لدورة أولمبية، حددت بدقة معالم التطور الكبير الذي حدث ويحدث على المستويات العالية في التباري، وأشعرتنا نحن العرب، أن وقعنا في الألعاب الأولمبية لن يكون كبيراً، إذا لم نستوعب جيداً التنامي الهائل لمنظومة تصنيع الأبطال الأولمبيين.
وأفضل أن أترك تقييم حصادنا العربي في دورة باريس إلى زاوية قادمة، لأشارككم صورة من صور كثيرة صدرها أولمبياد باريس، وهي تعبر صدقاً عن روح وشعلة وفلسفة الألعاب الأولمبية، الإنسانية منها قبل الرياضية، القيمية قبل العينية، وقد تداعت بشكل رائع على مسرح التباري.
عرفت رياضة التنس عبر زمنها الطويل، العديد من الأساطير الذين روَّضُوا الخوارق فجعلوها طيعة، واستحقوا مرتبة الخلود في كتب التاريخ، وبين هؤلاء طبعاً الصربي نوفاك ديوكوفيتش، الذي يكمل اليوم سنته الواحدة والعشرين لاعباً محترفاً، وفي هذين العقدين من الزمن، حقق نوفاك من الألقاب ما يضعه فعلاً في مصاف الأساطير، تُوج 24 مرة بجوائز جراند سلام الأربع، وست مرات بكأس الماسترز، حتى لا أحصي الألقاب التي حققها في دوريات أقل قيمة، لكنه أولمبياً لم يفلح في تحقيق الميدالية الذهبية، خلال النسخ الأربع التي سبقت دورة باريس.
في أول ظهور لنوفاك في الأولمبياد، خلال دورة بكين 2008 حقق الميدالية البرونزية، لكنه بعد ذلك سيبتعد لثلاث دورات أولمبية متتالية عن البوديوم الأولمبي، وهو ما شكل له عقدة، كان عليه أن ينتظر دورة باريس، ليتحرر منها إلى الأبد، وهو في عمر السابعة والثلاثين.
باريس، كانت الأولمبياد الخامس لنوفاك، الذي شق بنجاح هذه المرة طريقه نحو النهائي، ليلتقي في خاتمة السفر، بالإعصار الجديد في عالم الكرة الصفراء، الإسباني كارلوس ألكاراز، ومن تلك الشعلة السحرية للأولمبياد التي ركبت المنطاد وسافرت إلى حيث النجوم، أخذ ديوكوفيتش قبساً ليضيء النهائي، ويحقق الفوز الأول من نوعه بالمعدن النفيس.
وهنا ستعطينا الكاميرا الصورة التي ستخلد في ذاكرة هذا الأولمبياد، مع آخر نقطة يسجلها نوفاك ومنحتها الفوز التاريخي، سيسقط أرضاً مُغمى عليه، لا يدري ما هو فاعل بجنون وهوس اللحظة، تظهر الكاميرا فرائص نوفاك وهي ترتعش، ثم ينتقل لكرسيه، يغطي رأسه بالمنشفة، ويستغرق في نوبة شديدة من البكاء، في مشهد أبكى كل من أخذوا لهم مكاناً بأكبر ملاعب رولان جاروس، وحتى الذين تابعوا النهائي الأسطوري على شاشات التلفزة.
ما الذي أدخل نوفاك في هذه النوبة الشديدة من البكاء وحالة الارتعاش، وهو الذي حقق العشرات من الألقاب والجوائز في مساره الرائع؟
إنه الانتماء والولاء للوطن، فكل الألقاب الفردية التي نالها نوفاك، لا تساوي عنده في القيمة الذهب الأولمبي الذي أهداه أخيراً لبلده صربيا، وهكذا كان حال كل الأساطير الذين مروا من دروب الأولمبياد، فقد كانت منتهى سعادتهم أن يصنعوا الفرح والسعادة لأوطانهم.