من الأشياء الجميلة والفعال الحميدة التي رأيتها في معرض كتاب أبوظبي هذا العام، وجود سور الأزبكية بعتبة القاهرة كمعلم خالد لبيع وتواجد الكتب قديمها قبل حديثها، كان دوماً ضاجاً بالمريدين وقارضي الكتب، الباحثين عن المعرفة، وشيء من روائح الحبر وما يسطرون، ولعلها تكون عادة سنوية لاستضافة «المهمش» - المشهور لشوارع المكتبات في عواصمنا العربية العريقة، مثل شارع المتنبي في بغداد أو أمثال أكشاك الكتب العريقة والمشهورة في عواصمنا، مثل «كشك أبو علي» أو كشك الثقافة العربية في عمّان أو مكتبة الحاج مدبولي القديمة التي تفترش الرصيف، وربما ما زالت إلا قليلاً، وهناك مكتبات حي «الحبوس أو الاحباس» في المغرب، وإعادة التذكير بالمكتبات العريقة في تاريخنا، مثل «بيت الحكمة» في بغداد أو المكتبة الظاهريّة في دمشق، وحتى مقاهي المثقفين من كتّاب وفنانين والتي أثرت ساحاتنا في مختلف المجالات، ومنها نهضت مجتمعاتنا، وكان لها ذاك الأثر في حراك الأوطان وصناعة التاريخ الجديد للإنسان العربي.
إن المعنى الجميل لهذا التقليد الذي يسنّه معرض أبوظبي للكتاب هو إحياء تلك الأماكن والمنازل القديمة، وإحضارها هنا بكل تفاصيلها، الأمر الذي يعطي للمعرض جواً من البهجة والحميمية والذكريات الجميلة، والحضور «المسرحي» إن جاز التعبير في خلق حالة ثقافية متحركة.
حين توقفت عند «أزبكية» معرض أبوظبي، استشاط الحنين، واستفاقت الذكريات لكل تلك الكتب القديمة التي ما زالت على رفوف مكتبتي بأغلفتها الأولى، رأيت كل المجلات الفنية مثل «الموعد والشبكة والسينما والناس والكواكب» تلك المجلات التي علمتني القراءات الأولى، وصور لـ «بوسترات» أفلام ما زالت في الذاكرة، وصحف بعناوينها التي كانت جزءاً من التاريخ، وصور لفنانين كانوا في ريعان شبابهم، وأسطوانات غنائية، ومبعثرات كثيرة تعيد لك طعم الأشياء، وروائحها التي تهجم عليك فجأة حين تقع عيناك على شيء مخبأ في ذاك السور القديم، ليوقظ أحاسيس نائمة في قاع الذاكرة.
سور «أزبكية» معرض أبوظبي للكتاب يمكن أن يكون مشروعاً سنوياً لإحياء أشياء كثيرة، والتذكير بأناس كانوا يجلبون لنا المعرفة في بلداننا، مثل كشك «أبو مصطفى» في مكانه الصغير على جدار من جدران القدس العتيقة، حتى صار هو والجدار أخوين، «ناصر الشرعبي» شاباً وقد خبر البلدان، ومكتبته الأولى والرائدة في أبوظبي البراءة وسماحة الطيبين، وحينما كبرت المدينة وتعصرنت، أحرقت تلك المكتبة القديمة، وتبعها الشرعبي شيخاً يجر خطواته إلى مكان جديد وبعيد وخال من الأقدام الحافية الذاهبة للقبض على كتاب.
الأشياء الجميلة دائماً ما تجرح القلب بحب وحِنّية ومداعبة طفولية، فقط لكي نبقى نتذكرها، ونتذكر مشاغبتها التي كانت نفاً من عطر.. سور الأزبكية.. شكراً معرض أبوظبي للكتاب!