سياسات ترامب الخطيرة تهدّد عالمنا
لقد تسبّب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن طريق أفعاله وممارساته، بتقليص مكانته كقائد للعالم الحر، وفقدَ صفة الوسيط النزيه. يشعر حلفاء أميركا وخصومها بهول الصدمة نتيجة قراره إلقاء قنبلة في الشرق الأوسط عبر إعلانه، بصورة أحادية، القدس عاصمة للدولة اليهودية. العلاقة المميزة بين المملكة المتحدة وأميركا باتت في خطر. يطالب نوّاب بريطانيون غاضبون بمنع الرئيس الأميركي من زيارة بلادهم.
وفي خطوة غير مسبوقة، تطالب المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا، فضلاً عن خمسة بلدان أخرى، بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي للتعبير عن إدانتها للخطوة. ولكن لن يصدر أي قرار عن الأمم المتحدة بهذا الخصوص بسبب حق النقض (الفيتو) الذي تمتلكه الولايات المتحدة.
لم يكترث وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل للأعراف الديبلوماسية، معلناً في تصريح له: "لم تعد الولايات المتحدة تنظر إلى العالم بأنه أسرة جامِعة، بل ترى فيه حلبة قتالية حيث ينبغي على كل فريق أن يسعى خلف مصلحته الخاصة". أضاف: "حتى بعد مغادرة ترامب البيت الأبيض، لن تبقى العلاقات مع الولايات المتحدة على ما كانت عليه".
لقد قضى هذا الفعل المتهوّر، على آمال السلام. أقدم ترامب على ذلك بدافع استرضاء قاعدته اليمينية الموالية لإسرائيل بعد الهبوط الحاد في نسب التأييد له.
لقد دعت "حركة حماس" إلى انطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة. ورفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس لقاء نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الذي سيتوجّه قريباً إلى المنطقة من أجل العمل على حصر الأضرار.
أسوأ من ذلك، فإن إعلان ترامب يصب في مصلحة السردية التي تروّج لها المجموعات المتطرفة. فقد وجّهت "القاعدة" وتنظيم "الشباب" وحركة "طالبان" دعوات للتسلّح.
لا تخدم ولاءات ترامب المصالح الأميركية ولا الإسرائيلية. في الواقع، لقد جعل عالمنا مكاناً أشد خطورة بكثير خاصة للمسافرين الإسرائيليين والأميركيين من خلال وضع أهداف للإرهابيين على رؤوسهم.
هذا الاستفزاز من جانب ترامب هو بمثابة هدية إلى مجنِّدي الإرهابيين، قد يحرض الذئاب لاستجماع قواها الآن لمهاجمة المدنيين الأبرياء في عواصم غربية وعربية. يدرك ترامب ذلك جيدا ، لهذا السبب أصدر أوامره بإرسال قوات المارينز الأميركية لحراسة السفارات، ونصحت وزارة الخارجية الرعايا الأميركيين في الشرق الأوسط بتوخّي الحيطة والحذر. ترامب يستخدم كل خطاباته بهدف الترويج لإنجازاته، الحقيقية والخيالية على السواء، أو تحقير المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، التي نافسته في السباق الرئاسي، والتي يُبدي هوساً غريباً بالتهجّم عليها وكأنّ بينهما ثأراً.
بعدما خاب ظنّي من موقف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الداعِم لإيران وروابطه مع جماعة "الإخوان المسلمين" الإرهابية، وقبل أن اكتشف عيوب سياسات ترامب، عقدت آمالاً كبيرة عليه اعتقاداً مني بأنه بإمكان رجل أعمال مثله أن ينعش الاقتصاد الأميركي ويُقدّم رؤية جديدة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
لكنني سرعان ما أدركت أنني كنت مخطئاً، إلا أنني، وعلى النقيض من الإعلام الأميركي الذي شنّ هجوماً عنيفاً عليه منذ البداية، ولا يزال يخوض حرباً شعواء ضده، اخترت أن أمنحه فرصة، لا سيما وأن الولايات المتحدة هي من البلدان التي أكنّ لها إعجاباً شديداً، كما أنه بين أصدقائي المقرَّبين عددٌ كبير من الأميركيين.
أردت أن ينجح ترامب من أجل الشعب الأميركي، وكنت آمل بأن يعمل على توطيد أواصر العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم العربي.
غير أن نواقيس الخطر انطلقت بقوة عندما كشف عن نزعة من المحاباة عبر منح ابنته إيفانكا تصريحاً أمنياً ومنصباً في الجناح الغربي في البيت الأبيض، قبل أن يُقدِم على تعيين زوجها جارد كوشنير، وهو متعهّد عقاري غير متمرّس سياسياً، كبير مستشاريه ومبعوثاً إلى الشرق الأوسط.
سرعان ما اتّضح أنه أحاط نفسه بأشخاص مثيري الجدل، على رأسهم كبير المخططين الاستراتيجيين، ستيف بانون، الذي لم يعمّر طويلاً في منصبه، والمعروف بخطابه الناري المناهض للمسلمين والمهاجرين.
وقد أقرّ مستشاره للأمن القومي، مايك فلين، وهو الآخر كانت ولايته قصيرة لا بل أقصر من ولاية بانون، بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) حول الأحاديث التي أجراها مع السفير الروسي، ويتعاون راهناً مع التحقيق الذي يجريه روبرت مولر في الاتهامات حول تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية، كي ينقذ نفسه.
في غضون عام ونيّف، كان مصير 14 من كبار المسؤولين في إدارته إما الإقالة وإما الانسحاب من مناصبهم. وتسعة من معاونيه على الأقل هم حالياً موضع تقصٍّ على خلفية التعاون مع موسكو. تتوسّع دائرة المارقين والفاسدين سريعاً.
كان الشعار الذي رفعه ترامب "أميركا أولاً" مثيراً للقلق، لأنه يُنظَر إلى الولايات المتحدة تقليدياً بأنها قوةٌ للخير في العالم. سرعان ما أدركتُ تداعياته الأساسية – ليست لباقي العالم أية أهمية.
وقد قرن ترامب القول بالفعل ضارباً عرض الحائط بالمبادئ الديمقراطية الليبرالية للتجارة الحرة، فانسحب من الشراكة عبر الأطسي وهدّد بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا).
لقد أصيب المجتمع الدولي بأكمله تقريباً، بالصدمة وهاله إقدام ترامب على التخلّي عن اتفاق باريس حول المناخ، ومنذ ذلك الوقت، أظهرت المراسيم التنفيذية التي أصدرها أنه لا يكترث للحفاظ على بيئة سليمة وصون الحياة البرية.
تصاعدت حدّة الانتقادات له في الدول العربية الموالية للغرب، هذا كان قبل زيارته إلى السعودية التي حقّقت نجاحاً هائلاً، والتي ناقش خلالها مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وغيره من القادة العرب سبل مكافحة الإرهاب في أجواء احتفالية سادَها الودّ والتقارب.
على ضوء الانتقادات التي وجّهها ترامب إلى قطر على خلفية تمويلها للإرهاب، والدعم الذي أبداه للعزل السياسي والاقتصادي الذي فرضته عليها الرباعية بقيادة السعودية – مع اشتراط موافقة أمير قطر على 13 مطلباً لإنهاء العزل – تكوّن لدي اقتناعٌ بأننا نستطيع التعويل عليه كحليف قوي على الرغم من كل عيوبه.
كان ذلك قبل أن يُغدق وزير خارجيته ريكس تيلرسون المديح على قطر مثنياً على المعركة التي تخوضها ضد الإرهاب، فيما انتقد السعودية والإمارات والبحرين ومصر لما وصفه بـ"الحصار" الذي تفرضه على قطر.
في نظري، هناك ثلاث نقاط تُسجَّل ضد الرئيس الأميركي:
النقطة الأولى: في الملف الإيراني، أخفق ترامب في الوفاء بالوعد الذي قطعه خلال حملته الانتخابية بسحب بلاده من الاتفاق البائس مع إيران، مكتفياً بعدم المصادقة على الامتثال الإيراني لبنود الاتفاق. وهو لم يحرّك ساكناً لوقف الأعمال العدوانية التي تقوم بها إيران ضد جيرانها.
النقطة الثانية: إبان الهجوم العسكري الذي شنّته الولايات المتحدة لطرد تنظيم "داعش" من الرقة، يبدو أن ترامب سلّم سوريا من جديد إلى نظام بشار الأسد المدعوم من إيران وإلى روسيا حاميته.
النقطة الثالثة: لقد خان ترامب الشعب الفلسطيني، ونكث بالالتزامات الأمريكية بموجب اتفاقيات أوسلو، وداس على قرارات مجلس الأمن الدولي التي صادق عليها أسلافه، والتي تنص على أنه لا يمكن تحديد وضع القدس إلا من خلال اتفاقية الحل النهائي.
مع فائق احترامي للشعب الأميركي وأمّتهم الرائعة، لقد أخطأ الناخبون في الاختيار هذه المرة. لا يفكّر دونالد ترامب مليا قبل أن يتكلّم ولا يصغي إلى النصائح. تكمن الخطورة في أن منطق ترامب الذي قد تتسبب باندلاع حريق نووي لا يطال الولايات المتحدة وحسب، إنما أيضاً الجزء الأكبر من الكرة الأرضية. هو ليس من هواة فن إبرام الاتفاقات، بل على العكس، إنه خبير متمرّس في فن استعراص القوة.
لعل أحدث مظاهر التقلب في السياسات لديه، استناداً إلى ما نُشِر في صحيفة "واشنطن بوست" يوم الجمعة، يتجلّى من خلال الرسالة التي سلّمها تيلرسون إلى السعوديين. لطالما كانت أميركا شريكاً كاملاً في الجهود التي بذلها التحالف السعودي لإلحاق الهزيمة بالحوثيين المدعومين من إيران، وبسط سلطة الحكومة الشرعية من جديد في اليمن.
أما الآن فيبدو أن الولايات المتحدة تتبنّى "موقفاً أكثر تشدّداً" حيال "الدور" السعودي في ذلك البلد، عبر حضّها التحالف الذي تقوده السعودية على "رفع الحصار بالكامل"، وشنّ حملته العسكرية بطريقة مدروسة أكثر. لا بد من أنه لهذا الكلام وقع الألحان العذبة المستساغة على مسامع الملالي الإيرانيين والرعاع الحوثيين الذين قتلوا الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح.
لذلك أناشد قادة السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن اعتماد سياسات مستقلّة ومتحررة من الضوابط أو الوعود الأميركية طالما أن ترامب في البيت الأبيض. لا يمكننا الاعتماد على شخص لا نستطيع أن نتوقَّع سياساته للدفاع عن مصالحنا، فما بالكم بحمايتنا من المعتدين، لا سيما وأنه يعمد باستمرار إلى تمزيق الاتفاقات والإخلال بها.
يجب أن نرصّ صفوفنا كي نثبت قوّتنا ونصون منطقتنا التي عانت الأمرّين من التدخلات الخارجية، وينبغي أن نُعبّر عن استيائنا عبر التعاون مع قوى عالمية أخرى فيما نعمد إلى تنويع الجهات التي تزوّدنا بالطائرات والأسلحة والمواد التكنولوجية إلخ.
إذا كان ترامب مصرّاً على إبقاء الولايات المتحدة في فقّاعةٍ واحدة مع إسرائيل، فلا يمكنه أن يطلب الولاء من الدول الأخرى. لقد خلق أجواءً من المنافسة الشديدة حيث ينهش الجميع بعضهم بعضاً ويسعى كل بلد إلى إنقاذ نفسه ولو على حساب الآخرين.
في غضون ذلك، ينبغي علينا نحن الإماراتيين أن نعمل عن كثب مع أصدقائنا الموثوقين لإصلاح الأضرار التي تسبّبت بها سياسة ترامب تجاه إسرائيل، كي تبقى القدس على الدوام عاصمة فلسطين في قلوبنا – وعلى أرض الواقع بإذن الله تعالى.
خلف أحمد الحبتور