ولادة نظام عربي جديد؟!
لا شك في أن الشرق الأوسط وبالتحديد النظام العربي يمر بدينامكية متسارعة منذ عقدين من الزمن ونصف عقد، ويشهد تغييرات كبيرة، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، ودخول الولايات المتحدة في مرحلة أحادية قطبية مطلقة سمحت لها بالتفرد بالنظام الدولي والإقليمي معاً.
وشهِد النظام العربي انتكاسة كبيرة بغزو نظام صدام حسين لدولة الكويت، في 2 أغسطس 1990، وما أحدثه ذلك من هزات وارتداد أضعفت النظام العربي ككل، وكرست الوجود العسكري الأميركي بقواعد، خاصة في دولة الكويت -التي كانت من أقوى الصقور في مجلس التعاون الخليجي في رفض الوجود العسكري الأميركي. وفرض النظام العالمي قيوداً على نظام صدام حسين بعد طرد القوات العراقية من الكويت في عملية «عاصفة الصحراء»، ما أخرج العراق من النظام العربي كلياً، حيث خضع لحصار مطبق لم يسمح له حتى بيع النفط إلا تحت إشراف الأمم المتحدة.
وقد انعكست تلك التغييرات بمفاوضات مدريد بين العرب وإسرائيل وقد أنتجت اتفاقية غزة- أريحا، أولاً، وعودة السلطة الفلسطينية في اتفاق هش.. استخدمته إسرائيل بشكل مخادع لتقدم سراب سلام لم ينتج بعد ربع قرن سوى سلطة فلسطينية هشة، وتقسيم أرض فلسطين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، في صراع للإخوة، وحصار القطاع الذي تجاوز عشرة أعوام.
كما شهدت فترة التسعينيات أيضاً تحولات مع إدارة كلينتون، وتدخلها في أوروبا، والتوصل لوقف الحرب الأهلية الطاحنة في البوسنة والهرسك، ما عزز مكانة ودور ونفوذ الولايات المتحدة بشكل أكبر، وخاصة بعد قصف بلغراد واعتقال سفاح البلقان رئيس صربيا السابق سلوبودان ميلوسوفيتش.
فرضت إدارة كلينتون في التسعينيات نظام الاحتواء المزدوج على العراق وإيران لمنع اصطفافهما معاً. وخلال ذلك نجحت الولايات المتحدة في فرض أجندتها واستراتيجيتها على المستوى الدولي، مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء مواجهات وحروب وكالة الحرب الباردة، فوسعت أميركا من تمدد حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ليضم دولاً كانت في الحلف المناوئ «حلف وارسو». وانضمت دول أوروبا الشرقية للحلف وعلى رأسها بولندا والتشيك وسلوفاكيا، وتبعتها رومانيا وهنغاريا وبلغاريا.. لتتكرس بذلك سيطرة أميركية كاملة على أوروبا، وخاصة بعد إعادة توحيد ألمانيا. وسطعت قوة أميركا أيضاً باتفاق «دايتون» الذي وضع حداً ونهاية للحرب الأهلية المدمرة في البوسنة والهرسك في قلب أوروبا، ما زاد من حضور ونفوذ الولايات المتحدة اللاعب الوحيد على المستوى الدولي.
وقد انعكس كل ذلك بشكل واضح على الدور والحضور الأميركي في الشرق الأوسط، حيث زادت واشنطن من حضورها في منطقة الخليج العربي لاحتواء إيران ومراقبة نظام صدام حسين. ومع بداية الألفية الجديدة، وبدء عهد إدارة بوش الابن، شنت «القاعدة» أقسى هجوم داخل الأراضي الأميركية في اعتداءات 11 سبتمبر 2001، التي شكلت صدمة للنظام السياسي والأمني الأميركي، وللمجتمع الأميركي ككل- فعادت أميركا بقوة للشرق الأوسط كأولوية. وهذه المرة عادت أميركا جريحة، في حربها على الإرهاب وحروبها الاستباقية، تنفيذاً لعقيدة بوش الابن الجديدة الذي شن حربي أفغانستان والعراق، وقد تحدث الرئيس دونالد ترامب عن تلك السياسات مؤخراً قائلة إنها «كلفت أميركا 6 تريليونات دولار، وإن الوضع بات أسوأ وليس أفضل».
والتحول الكبير في النظام العربي في خضم ما عُرف بموجات الفوضى التي أطلق عليها الإعلام الغربي «الربيع العربي»، ولم تتمخض سوى عن خريف وشتاء عربي. فما حدث كان المزيد من الفوضى، وتفكك بعض الدول المركزية، وبالمجمل فقد أدى إلى إضعاف النظام الإقليمي العربي! وضعفت بعض الدول المركزية، العربية وخرجت من المعادلة الإقليمية. وقد حصّنت دول مجلس التعاون الخليجي نفسها من فوضى «الربيع العربي» بسبب شرعية أنظمتها، ما سمح لدول مجلس التعاون بقيادة النظام العربي، وممارسة دور القيادة. وهكذا انتقل مركز القوة والثقل العربي، بشكل واضح، إلى منطقة الخليج العربي، خاصة مع انكفاء وتراجع الدور الأميركي ف عهد أوباما وهوسه بالتوصل لاتفاق نووي مع إيران على حساب الحلفاء التقليديين الخليجيين.. ما شكل نقطة خلاف وافتراق هي الأسوأ في العلاقات الأميركية- الخليجية، وخاصة مع تنامي واستغلال إيران لتقاربها مع إدارة أوباما، حيث فاخرت في سنوات أوباما الأخيرة بأنها تسيطر على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
وظهر الفاعلون من غير الدول وخاصة تنظيم «داعش» و«الحشد الشعبي» و«حزب الله»، ما زاد من ضعف بعض الدول المركزية، واحتلت أجزاء واسعة من أراضيها. وفي مئوية سايكس - بيكو، كان النظام العربي في وضع متراجع.
وحتى مجلس التعاون الخليجي، يشهد خلافات، في أكبر أزمة سياسية تعصف به منذ قيامه قبل 36 عاماً... فإلى أين تقود الأزمة الخليجية، ليس مجلس التعاون الخليجي فقط، ولكن النظام العربي ككل، الذي يقوده المجلس؟ على أمل إيجاد حل سريع تتجاوب معه الأطراف المتنازعة، لتقدم الأطراف الشكاوى وتتعاون قطر معها وتلبيها لمصلحة الجميع.. سنناقش ذلك في مقال الأسبوع القادم.