خلط الدين والسياسة.. الجدل المُستمر
أي تأمل في مآلات تجارب عديدة خلطت الدين مع السياسة في المنطقة العربية والإسلامية خلال القرن الماضي على أقل تقدير يؤدي إلى نتيجة واحدة: تشويه الدين وتدمير السياسة. يحدث ويتواصل حدوث هذا بسبب التوظيف السياسي للدين. هذه النتيجة ليست محصورة في العصر الحديث بل مكررة تاريخياً بشكل مُذهل، ولا هي وقف على التاريخ الإسلامي، بل كونية التمثل وتتجسد في كل الثقافات والأديان والأزمان.
معنى ذلك أن الجدل الحقيقي في هذه المسألة يجب أن يتمركز في قراءة وتأمل التجربة التاريخية والشواهد العملية لتوظيف الدين في السياسة، وليس في السجال النظري والفكري التجريدي كما تشهده مطارحات وأدبيات الإسلامويين حول «نجاعة» و«ضرورة» إدارة السياسة بالدين أو ما هو قريب من ذلك. في أي نقاش راهن ثمة من ينبري للهجوم بكل نضالية وشراسة على فكرة فصل الدين عن السياسة واسترذالها وإعادة تدوير الفكرة المتهافتة التي تحصر إمكانية الفصل هذه في التجربة الغربية فقط، وبأن التجربة الإسلامية مُختلفة وأن الفصل غير ممكن، وتُلحق بذلك كل المسوغات والتبريرات. ينجرف الحديث إلى طوباوية لا علاقة لها بالواقع تحلق في علياء المقارنات النظرية بين الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والفروقات بينها جميعاً والإسلام، بغية توكيد «استثنائية» و«جوهرانية» علاقة الدين بالسياسة في الإسلام والسياقات الإسلامية. ولا تنال التجربة العملية المعاصرة والراهنة (فضلا عن تجارب الماضي والتاريخ) والتي تفرض نفسها على تفاصيل المشهد السياسي الاهتمام الحقيقي في السجال.
عشرات التجارب السياسية الحالية والتي يُمكن إدراجها تحت مسمى «الإسلام السياسي» تشمل تنظيمات سياسية حركية بتنويعات لا حصر لها، ودولا وكيانات حديثة نشأت على أسس تحالفية مع قوى دينية منحتها الشرعية، بل وأيضا قوى عُظمى انتبهت لفاعلية «توظيف الدين في السياسة»، كما هو حال الولايات المتحدة والغرب في افتعال وتأسيس «الجهاد الإسلامي» ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وليس انتهاءً بـ«داعش». هذه التجارب والشواهد التي تفيض عن الحاجة للاستدلال تُهمش في السجال المتواصل حول «الدين والسياسة» وتصبح وكأنها ليست واقعاً ملحاً يفترض التأمل فيه والاستفادة منه. عوض ذلك يُدفع النقاش في «الجدل النظري» ومن خلال بهلوانيات لغوية وبلاغية، إلى سؤال مُفتعل حول «صلاحية الإسلام للسياسة» يهدف إلى الإحراج أكثر مما يهدف إلى البحث عن إجابة.
لكن ما هو الإسلام الذي يحيل عليه السؤال؟ وما هي السياسة؟ الإسلام الوارد في التساؤل هنا لا يمكن فصله عن فهم السائل، بمعنى أن الإخواني سوف يكون الإسلام بالنسبة له هو «الإسلام الإخواني»، أي كما يفهمه «الإخوان المسلمون»، وعلى ذات الشاكلة سيكون هناك «الإسلام السلفي»، و«الإسلام التحريري»، و«الإسلام القاعدي أو الداعشي»، و«الإسلام الدولتي» الذي تتبناه كل دولة بمفردها. وهناك «الإسلام الشيعي الثوري»، و«الإسلام الشيعي غير الثوري»، و«الإسلام الحوثي».. إضافة لنسبيات أوسع حول «الإسلام العربي» و«الإسلام الآسيوي» و«الإسلام الأفريقي»، وقائمة لا تنتهي من تعريفات منسوبة لكل طرف يقول بأنه وحده الذي يعرف ويفهم الإسلام.
معضلة تعدد الأفهام والتعريفات للدين، ليست حصرية بالعرب والمسلمين بل طالت كل الأديان بلا استثناء، وكانت في محل ما إحدى الآليات الدافعة لتحرير السياسة من الدين والدين من السياسة في السياق الأوروبي. فقد تبدى لكثير من المفكرين أن السمة السائلة والطيفية لتعريف وتأويل الدين حيال السياسة، تعني شرعنة الفعل السياسي دينياً واستقواء طرف سياسي معين بالدين ضد أطراف أخرى. وعلى هذا الإيقاع قامت الحروب الدينية الطاحنة داخل كل حضارة أو ثقافة، وكانت أكثر دموية في العديد من الأحيان من الحروب ضد الحضارات والأديان الأخرى.
لكن الشيء بالغ الأثر في الثقافات الدينية ليس الماضي كما وقع، بل هو المخيال الجمعي والتاريخ المُتخيل لما حدث. فدائماً ما يُعاد صوغ التاريخ وخاصة الديني السياسي منه في حبكات تستهدف خدمة أهداف ومشروعات سياسية، أو فهم معين للدين. وتبعاً لهذه النقطة يمكن القول إن أحد أهم «إنجازات» (=أوهام) الإسلاموية الحديثة تمثل في تسويق «تاريخ إسلامي مُتخيل» عن ماضي العرب والمسلمين، يتصف بالتسطيحية الهائلة وتخليق آلية رياضية مباشرة بين «سبب ونتيجة» تقولان إن «تدين المجتمعات وأسلمتها يعني النصر والتقدم والازدهار»، ونشر ذلك كأحد مكونات الثقافة العامة. لقد تسلل هذا التسطيح الفادح من الثقافة الحزبية الحركية إلى المناهج المدرسية ثم أصبح «مسلمة» اجتماعية.
تطورت نظريات السياسة والحكم وإرادة وإدارة الشعب والعقد الاجتماعي والمشاركة السياسية والديمقراطية القائمة إجمالا على إنتاج أنواع جديدة من الشرعيات السياسية المعبرة عن إرادة المجموع العام، وتُبقي تلك الإرادة الأداة الأولى والأهم في مراقبة السياسة والسياسيين.
الدفاع عن خلط الدين بالسياسة يعني استدعاء زمن القرون الوسطى، ومنح السياسة والسياسيين كل الفرص لتوظيف الدين لمصالحهم بعيداً عن المحاسبة والمراقبة والشفافية.