المثقف القلق ومثقف اليقين
في التعريف المبدئي للمثقف ثمة توافق معقول بأنه الفرد المنهمك في الهم العام والمشتغل لتحقق صيغة أو مشروع ما إزاء ما يُؤمل أن يؤول إليه مجتمعه أو بلده أو العالم برمته. وفي العصر الحديث نشأ وتطور المفهوم في سياق بروز «الانتلجنسيا»، أو الطبقة المثقفة. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أن تطور وتحول مفهوم المثقف وأدواره في العصر الحديث تأثر كثيراً بالرؤية الماركسية التي تفرق بين الفيلسوف الذي ينظر لفهم العالم والمفكر الذي يهدف إلى تغيير العالم، والمثقف بطبيعة الحال من الصنف الثاني الباحث عن تغيير العالم وليس فهمه فقط.
والمثقفون يتوزعون مفهومياً على طيف عريض يمتد بين حدين: الأول هو «المثقف اليقيني»، والثاني المضاد له هو «المثقف القلق»، وبينهما أنواع وتصنيفات عديدة تبدأ من «مثقف الوضع القائم» وهو الجهة الأقرب إلى «المثقف اليقيني» ولكن ليس بالضرورة أن يكون يقينيا، معه سياسياً وإيديولوجياً، وقريباً من الاثنين هناك «مثقف العشيرة» أو المثقف التبريري، وبعيداً عن هؤلاء بمسافة، وما زلنا على طيف المثقفين، هناك «المثقف العضوي» (الغرامشي)، وإلى جانبه بمسافة «المثقف الناقد» وإلى يساره الأقصى هناك «المثقف القلق».
شرائح «المثقف اليقيني» ربما هي الأوسع لأنها تضم مثقفي الأيديولوجيات الدنيوية والدينية وأصحاب النظريات الخلاصية المطلقة الذين يقودهم يقين راسخ بأن ما يحملونه من «رؤية» و«مشروع» هو الحل الوحيد والحقيقي لمجتمعاتهم والإنسانية جمعاء! و«اليقين» هنا هو المفهوم المفتاحي لإدراك الجوهر التفكيري والمتسيس لمثقفي اليقين. وشريحة «مثقفي اليقين» تمتد في اتجاهات عديدة لتشمل أيضاً مثقفين غير مؤدلجين ولكنهم يقينيون لجهة الإيمان الأعمى بما يروجون له أياً كانت طبيعته. وقريباً من هؤلاء اليقينيين غير المؤدلجين، يقف «مثقف الوضع القائم» المدافع عما هو سائد سواء كان ثقافياً أو اجتماعياً أو سياسياً. والتسويغ الذي يقدمه هذا المثقف يقوم على أسس براغماتية، وقد تكون مخلوطة بمصالح ذاتية. والأشد منه اقتراباً للمصلحة الذاتية، وتشدداً في الدفاع عن الوضع القائم، هو «مثقف العشيرة» الذي لا يرى في الجهة التي ينتمي إليها ويدافع عنها بشراسة، الجماعة، الطائفة، الحزب، النظام السياسي، أي نقص أو شائبة، ويستشرس في الدفاع والتبرير واجتراح المسوغات!
وفي بدايات الجهة الأخرى للطيف الافتراضي نفسه للمثقفين نجد «المثقف العضوي» الذي اكتسح مثقفي العالم الثالث في حقب التحرر الوطني، وكان قد صك المصطلح والتعريف أنتونيو غرامشي المفكر الشيوعي الإيطالي في ثلاثينيات القرن الماضي الذي ناضل ضد الفاشية وسجنه موسوليني. و«المثقف العضوي» هو الملتحم عضوياً مع المجتمع الخاضع لبطش نظام توتاليتاري قد يكون داخلياً وقد يكون خارجياً استعمارياً. وبسبب هذا التعريف والدور أصبح تعريف «المثقف العضوي» هو الأكثر جاذبية، على رغم أنه ينطوي على دفاع غير نقدي عن المجتمع أو الجماعة المعنية التي ينخرط المثقف عضوياً فيها. ولهذا وتطويراً على «عضوية» هذا المثقف تطور مفهوم «المثقف الناقد»، الذي قدم تعريفاً أكثر عمقاً إزاء دور المثقف في مجتمعه، وإزاء مصفوفة السلطات التي قد تواجه الأفراد. و«المثقف الناقد» هو الذي يعتمد النقد رؤية لمقاربة المواقف والأنظمة والسياسات، حتى إزاء الشرائح والطبقات والشعوب المضطهدة. ومقارباته إبستمولوجية أكثر منها إيديولوجية، وتضامنه مع المظلومين وإن كان قائماً وحاسماً بيد أنه ليس تضامناً أعمى بل هو مرفوق ومشروط بالنقد أيضاً، ذلك أنه «لا تضامن من دون نقد»، كما قال أدوارد سعيد.
وقد توسع الفضاء الذي احتله «المثقف الناقد» وأصبح الأكثر شهرة... وسطوة، وخاصة في حقبة ما بعد نزع الاستعمار وخفوت موقع ودور «المثقف العضوي».
أين نموضع في ضوء هذا النقاش أصناف المثقفين من ناحية إيديولوجية: مثلاً المثقف القومي، والماركسي، والليبرالي، والديني؟ الجواب يكمن في موضعتهم على ذات الطيف تبعاً للتصنيف المفاهيمي، أي ربما ينطبق وصف «المثقف اليقيني» أو «مثقف العشيرة» أو «المثقف الناقد» أو «المثقف القلق» على أي من هؤلاء. وهكذا فإن كلا منهم قد يحمل عملياً صفتين في آن واحد، الأولى تصنفه مفاهيمياً والثانية تصنفه إيديولوجياً، فيكون لدينا، مثلاً، مثقف ماركسي يقيني، أو مثقف ماركسي عضوي، أو مثقف ماركسي قلق.
وأين نموْضع في ضوء نفس النقاش، مفاهيمياً وإيديولوجياً صنفاً من «المثقفين» برز في العقدين الماضيين، وصار من ذوي التأثير الكبير والشعبية اللافتة وهو «المثقف الشعبوي» أو المثقف المهرج: مثقف الإعلام التلفزيوني. يبدو هذا المثقف عصياً نسبياً على التعريف وعلى وضعه في مكان ما على خط طيف المثقفين. تعريفياً، يمتلك هذا «المثقف» القليل من الثقافة والعمق، ولكن الكثير من الدراما والأداء والفرصة الإعلامية لمخاطبة شرائح كبيرة. ولديه هوس كبير في جذب التصفيق والمتابعين ولو أدى ذلك إلى ممارسة تهريج يومي من دون ثقافة.