أعراس المرنيسي
الصباح الأول في الرباط، محتفين بروح الراحلة فاطمة المرنيسي، ترد صباحي بالخير عليها بـ: «صباح فلسطين»! وقت الغداء وما بين استراحات ندوات المؤتمر تحدثني عن نضالات شبيبة اليسار في المغرب، وتأثرهم بنايف حواتمة و«الجبهة الديمقراطية». ذاكرة «سعدية» لا تسعفها بالأسماء لكن يسعفها الوصف: كان معنا في دراسة الفلسفة ثلاثة فلسطينيين، أحدهم فتحاوي ممتلئ الجسد وباسم الوجه غالباً، واثنان يساريان من «الجبهة الديمقراطية»، أحدهما امتاز بجسد رياضي وغموض كبير، وكان كثير الغياب. كانت تدور حوله أقاويل تزيد من إعجابنا به. كان هناك فلسطينيون آخرون مع «الجبهة الشعبية»، وكانت أسماء كبيرة تتردد في فضائنا الطلابي الطافح بالأمل الثوري: أبو عمار، جورج حبش، نايف حواتمة. كنا نحن المغاربة لا نحس بأننا أقل فلسطينية من أي رفيق من رفاقنا الفلسطينيين. كان زمناً جميلاً ينحني لجماله الجمال. قصص «سعدية» بديعة، وقد تواعدنا على لقاء مطول لتقص علي حكايا فلسطين الستينيات والسبعينيات في المغرب.
في المساء جاءت وتجولنا في شوارع قلب الرباط، حي حسان وبيتريه وقريباً من متحف الفن المعاصر، تحدثني بذكريات تنز بالمرارة: «كنا مجموعات كثيرة وثائرة في أوائل العشرينيات من أعمارنا، نفور بالأمل». رفعت نظري ذات استدارة طريق، فرأيت موريتانيين وموريتانيات تحفهم ضحكات عالية ينزلون من سيارتين، الرجال بدراعاتهم الزرقاء والبيضاء الزاهية، والنساء بملحفاتهم الملونة بألوان الفرح. سعدية فرحت بهم أيضاً وانتعشت الصحراء بداخلها. تذكرتُ زمني الفلسطيني القصير (وغير الثوري) في موريتانيا. ألحقتني قدماي شبه راكض بصحراء الموريتانيين وضحكاتهم التي ترجلت من سيارتين وامتدت وسط الرباط. تبعتني سعدية. «اش طاري.. وانتو قايسين منين»، أسأل متشاوفاً بما تبقى من لهجتي الموريتانية الحسانية. فرحوا بنا وانداحت التحايا والسلامات كأنما نزلنا سعدية وأنا من سيارة ثالثة بدراعة وملحفة. اكتشفنا أن هناك حفلاً طلابياً بعيد استقلال موريتانيا السادس والخمسين في البناية المجاورة، وأن هذه الواحات النازلة من السيارات تباعاً والمزركشة بألوان الكون، تتجه إلى قاعة الاحتفال. انضممت للحفل دون استئذان، طارت روحي طويلاً، ونقص عمري خمساً وعشرين سنة دفعة واحدة. قلت لسيدي ولد محمد، مضيفي المباغت، إنني ذات زمن تسعيني دندنت وراء فيروز وهي تغني للقدس على شاطئ نواكشوط، وإنني كنت «خالد ولد الحروب». احتفى المحتفون بما ذكرت وبي. عاد الزمن الفلسطيني مشتعلاً على طول حافة الأطلسي من الرباط وما فوقها إلى نواكشوط وما تحتها.
في أزمنة ماضية كان عشاق فلسطين من كل العالم يعملون من أجل فلسطين ذاتها، لهذا كانت أزمنة مشتعلة. الطريق إلى فلسطين وفلسطين شيء واحد. في أزمنة راهنة وبائسة صار كثير من العمل لفلسطين هدفه السماء والحور العين وليس فلسطين ذاتها.
ليس مُدهشاً أن يحل بي كل هذا السحر في يومين وليلتين وتطلع لي فجأة شمس نواكشوط في ليل الرباط، ويحضنني محيطها تحت رذاذ تلك الأمسية التي تجولت فيها مع سعدية. ليس مُدهشاً أن يحدث ذلك ونحن جميعاً في حضرة روح فاطمة المرنيسي، محتفين بإقامة كرسي للدراسات باسمها في جامعة محمد الخامس. هنا جاء كثيرون من أنحاء العالم، ومن بوادي وأرياف وأحياء مهمشة قضت فيها فاطمة أوقاتاً مديدة، من الزاكورة في جنوب شرق البلاد وحي كريمة في سلا إلى أبعد صحاري أطالس المغرب المنسية. أحد جوانب الإبداع لدى المرنيسي أنها انتقلت من نصوص النظريات إلى شوارع الأحياء الشعبية، إلى النساء الأميات، إلى أطفال الشوارع، إلى الفتيات البسيطات وهن ينسجن السجاد وراء الأنوال البسيطة، ومن هناك صارت تكتب وتنشط اجتماعياً. لم تتأبد في أسر النظريات، تحررت منها وذهبت في الاتجاه المعاكس، إلى الناس الذين تظل حركتهم تنتج أفكاراً ونظريات جديدة لا تنتهي. إن عدد البعض نظريات وأفكار المرنيسي، فالبعض الأكثر معرفة بها يضيفون إلى ذلك «ناس المرنيسي» أيضاً: يضيفون محمد بنور الذي بسطت فاطمة يدها له وانتشلت منه فناناً تشكيلياً صار ذائع الصيت، وكريم سائقها المخلص الذي صار معروفاً لدى كل أصدقائها العالميين والمحليين، وأحمدو الترزي، والعربي، والنساء اللواتي يصنعن أحذية البلاستيك ويبعنها على أرصفة حي كريمة الشعبي وقوائم لا تنتهي من الناس العاديين الذين خلدتهم فاطمة في حياتها ونصوصها.
بعد أول لقاء لي معها منذ أزيد من ثلاثة عشر عاماً طوينا الأوراق وأخذتني في زيارة سحرية إلى القلب العتيق والجميل للرباط «سويقة القناصلة». قالت: الذي لم يزر «حي الوداية» على الهضبة المطلة على الأطلسي، لا يعرف الرباط ولم يزرها.
لروحك يا فاطمة السلام بلا توقف، ولها العرفان على كل هذا السحر في هذين اليومين.