الخاسر الأكبر في «جريمة شارلي إيبدو»
لم يكن ضحايا جريمة الهجوم الغادر على صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية هم محرريها ورسَّاميها ورجلي الشرطة الذين فقدوا حياتهم، أو أولئك الذين أصيبوا خلال الهجوم فقط، بل إن المسلمين في مختلف أنحاء العالم سيكونون من بين الضحايا، وسيدفعون ثمناً باهظاً لما يقترفه الإرهابيون من جرائم بشعة باسم الإسلام. لن يقتصر الضحايا المسلمون على أحمد المرابط، الشرطي الفرنسي الجزائري الأصل، أو مصطفى أوراد، الجزائري الأصل أيضاً، بل ستمتد تبعات العمل الإرهابي الجبان إلى ملايين المسلمين في فرنسا وعشرات الملايين في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، الذين سيتعرضون لأشكال مختلفة من الاستهداف والكراهية. وربما تُفضي مفاعيل هذا الهجوم الإرهابي في نهاية الأمر، وحدها أو مع أحداث وكوارث لاحقة يتوعدنا بها الإرهاب الأسود، إلى حرائق جديدة تضاف إلى سجل الحرائق التي تلتهم دولاً وشعوباً مسلمة، وتزيد من معاناة العرب والمسلمين فيها.
المسلمون هم أكثر من يدفع ثمن حمق الجماعات الإرهابية وإجرامها، وهو ثمن فوق ما يمكن تصوُّره. فقد هاجم الإرهابيون مركز التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001، متصورين أنهم حققوا انتصاراً باهراً، وخُدع بهم بعض الناس وشاركوهم الفرح بجريمتهم غافلين عن نتائجها. وكان الثمن الذي تجرعناه هو سقوط بلدان عربية كاملة وتمزقها وحروباً أهلية وملايين الضحايا الذين فقدوا أرواحهم فعلياً، ودماراً اقتصادياً شاملاً وفتناً ومواجهات، وفقراً وبؤساً يفرض نفسه على أغلب بقاع الخريطة العربية، فيما تبقى بلدان أخرى تنتظر دورها، وبحيث أصبح الاستثناء هو وجود دول عربية متماسكة تقاوم الظروف الصعبة وتسعى إلى مواجهة هذا المد الإرهابي البشع.
سيدفع الثمن مسلمون في أفريقيا وفي آسيا لهم مطالب عادلة بالحياة الحرة الكريمة في دول لا يمثلون أغلبية سكانها، إذ سيصدر عليهم حكم إدانة مسبقاً يحرمهم من أهم أدواتهم، وهو التعاطف الدولي معهم والدعم العالمي لقضاياهم. وسوف يُتركون فريسة سهلة بين أيدي متعصبين ربحوا مجاناً فرصة قهر المسلمين في بلدانهم. المسلمون هم الخاسر الأكبر، لذلك فإن المسلمين، وليس فرنسا أو الغرب عامة، هم من يجب أن يتصدى لهؤلاء الإرهابيين. فليس الأمر معركة يواجه فيها المتطرفون الغرب والولايات المتحدة، نراقبها نحن من بعيد، بل إن كل طلقة فيها تستقر في أجسادنا نحن. إدانة الإرهاب يجب أن تكون واضحة وقاطعة وصلبة، ودون أي «لكن». وكل استدراك أو تبرير أو تهوين هو زيت نصبه في ماكينة الإرهاب لتواصل جز أعناقنا.
نحن، المسلمين، دولاً وشعوباً وجماعات مجتمعا مدنيا وإعلاميين ومشرعين ورجال دين وفكر، يجب أن نقدِّر الخطر حق قدره، ونجعل الإرهاب في صدارة قائمة أولوياتنا، فلا تقدم علمياً ولا استقرار اقتصادياً أو سياسياً ولا بقاء للأوطان نفسها إذا تركنا هذا السرطان يستشري في أجسادها. وعلينا ألا نتسامح مع أي مظهر من مظاهر الإرهاب، أو مع الجماعات التي تخفي نواياها الإرهابية وراء لافتات زائفة، وأن نقطع الأذرع الخبيثة التي تتطوع لتلطيف الخطاب الإرهابي أو تصطنع ذرائع تقلل من خطره أو تشغلنا عنه.
لقد أدركت دولة الإمارات العربية المتحدة هذه الحقيقة منذ وقت بعيد، وبذلت جهوداً جبارة من أجل توضيح الخطر قبل أن يستفحل، سواء لأشقائها من الدول العربية والإسلامية أو للغرب الذي كان موقفه غامضاً وملتبساً. وكان خطاب الدولة ثابتاً جلياً، وتحركاتها حاسمة في مواجهة الإرهاب والإرهابيين على كل الصعد والمستويات، وتصديها لمحاولات الإرهاب إيجاد موطئ قدم فكري أو سياسي أو تنظيمي له بالدولة باتراً وقاطعاً. ولو أن أطرافاً أخرى كانت قد تصرفت على المستوى نفسه لتجنب العرب والمسلمون، بل العالم أجمع بعض ما يعانونه الآن من نكبات.
لم تنتظر الإمارات حادثة «شارلي إيبدو» لتعرب عن موقفها هذا، بل إن جهودها لا تتوقف منذ أطل الإرهاب بوجهه القبيح على حياتنا السياسية والفكرية، لكن هذه الفاجعة الاخيرة التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس ربما تكون مناسبة لتذكير بعض الغافلين، أو المخدوعين، بأننا خسرنا الكثير، وأننا سنخسر أكثر إذا تأخرنا لحظة في خوض حربنا المصيرية ضد الإرهاب بكل أشكاله. إن في تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في مواجهة الإرهاب الكثير مما يمكن للدول العربية والإسلامية أن تستفيد منه، بدءاً من قصر صعود المنابر على المؤهلين لذلك، وقصر إصدار الفتاوى على من يقدِّرون مقام الفتوى حق قدره ويملكون أدواته، والرصد المبكر لتسرب الفكر الإرهابي في وسائل الإعلام المختلفة وإيقافه على الفور، وترشيد الخطاب المجتمعي وإعلاء حس المسؤولية فيه بشكل عام، والرصد المبكر لتسرب مختلف أشكال التنظيمات الإرهابية إلى قطاع التعليم والأنشطة الشبابية وحماية النشء من شرورهم واستغلالهم، وتنقية المناهج الدراسية مما أدخله عليها هؤلاء.