العربي بين دولته وفكره
اليوم يبدأ منتدى «الاتحاد» الثامن تحت عنوان مستقبل الدولة الوطنية، وقد أحسن منظمو المنتدى في اختيار هذا المحور للتباحث حوله، لما تتعرض له الدولة الوطنية اليوم في العالم العربي من هجمة فكرية شرسة تريد اقتلاع جذورها، كي تصبح دولنا في مهب رياح الفكر التي تحركها المصالح الدولية بعيداً عن المصلحة الوطنية. وكي نستوعب هذا الخطر اسمحوا لي أن أذكِّركم بمرحلتين مهمتين للفكر العربي، وكيف أثر خلالهما في الدول العربية.
في الستينيات كنا صغاراً في مدارسنا نردد في أناشيدنا الصباحية: بلاد العرب أوطاني وكل العرب إخواني ودين الله لي دين بإنجيل وقرآن. لقد كان المد القومي سائداً في تلك المرحلة من حياتنا. كانت انطلاقة الفكرة حسنة وهي الوحدة العربية، لكن بعض المفكرين حرّفوا هذا النهج عندما تأثروا بالفكر الاشتراكي لفترة والشيوعي في فترة أخرى، وهنا نسفت قيم العرب كي تُستورد مكانها قيم الشرق الاشتراكي في ذلك الوقت، مع مزجه ببعض الفكر الوطني أحياناً والبعثي في دول أخرى. وبعيدا عن قيم السماء كان النداء: «آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما لها ثان». وتأثرت منطقة الخليج بمثل هذه الأفكار التي تسربت لنا عبر البعثات الدراسية والمعلمين المستقطبين للعمل في دولنا، وتبنّى عدد من أهل الخليج مثل هذه الأفكار، وكانت أمنيتهم هدم الدول الخليجية القائمة على التحالفات القبلية وتحويلها إلى دول اشتراكية أو غيرها، لكن الإنسان الخليجي على العموم رفض هذه الأفكار لأنها تعارض بعض قواعده الدينية والوطنية التي نشأ عليها، وقد قال أحد رموز الفكر اليساري في الخليج قبل موته رحمه الله، الحمد لله أن فكرنا لم ينجح في دولنا وإلا تحوّلت دول الخليج العربي لتصبح مثل عدن.
المد الثاني الذي تزامن مع ذلك الفكر أو جاء بعده بقليل، كان الفكر الإسلامي بمدارسه المختلفة، والتي كانت جماعة «الإخوان المسلمين» الرائدة فيها. وبنفس الطريقة وصل ذلك الفكر إلى الخليج العربي، وكان مُرحّباً به لأنه لم يصطدم بالدين الذي يؤمن به أهل المنطقة الذين عرف عنهم حبهم للتدين والمتدينين. هذا الفكر ربّى جيلاً من أهل المنطقة وكان حاديهم يقول: وطني الإسلام لا أرضى سواه، وبنوه أين كانوا إخواني. عبارات لها دلالات لم تُفقه إلا مؤخراً عندما ظهر الفكر السياسي للجماعات الإسلامية بشتى أطيافها، وتعدد وجهاتها. فمن كان يعتقد مثلا أن جماعة السلف التي رفعت شعار تجديد العقيدة، لها أجندة سياسية؟ ومن كان يظن أن جماعة «الإخوان» التي رفعت شعار «الإصلاح» تُعِد جيلا لقيادة الدول متى ما أتيحت لهم الفرصة؟ في مثل هذه الأفكار لا توجد دولة وطنية لأنها جماعات لا تعرف الحدود الجغرافية، فالظواهري مثلاً من أفغانستان يقود دولة الإسلام في العراق والشام!
وقد نجحت تلك الجماعات في جعل الولاء لها مقدماً على الانتماء للوطن وقيادته، لأن المسلم -كما يقولون- وطنه عقيدته، ومن أجلها يقتل حتى أهله! إنهم يحرّفون نصوصاً قرآنية نزلت في بداية الدعوة الإسلامية عندما كان العربي المسلم يحارب أخاه الكافر نصرة لدينه، لتفسير حروبهم اليوم في الدول العربية المسلمة. إن الدولة الوطنية لا تتعارض مع الإسلام بل تؤمن بأن لكل إقليم خصوصيته التي تجعل العربية لغته والإسلام دينه، ومُواطِنَه منفتحٌ على العالم بحضارته معتز بانتمائه وولائه.