«وست جيت»: عولمة الإرهاب
يبدو حدث تفجير مركز التسوق الكيني «وست جيت» في نيروبي يوم 21/9/2013 متواضعاً من وجهة نظر الجمهور العربي، أمام ما يتابعه في سيناء وسوريا واليمن وتونس... لكن المسألة لا تبدو متعلقة بالحجم أو الموقع الآن، بل نكاد نقول: ولا حتى بالقائمين بها، وهم من «حركة الشباب المجاهدين» في الصومال.
وفي الحدث أوجه مثيرة للتساؤل. وتقوم وسائل الاتصال العالمية بدورها التقليدي في تحويل حدث كهذا إلى حكايات شيقة، عن «الأرملة البيضاء»، وزعيمهم الغامض «مختار أبو زبير» -الاسم الحركي لأحمد عبدي جوداني، كما تطلق على زعمائهم الأوروبيين تسميات مثل «أبو أسامة البريطاني»، و«أبو منصور الأميركي»... لكن لا تفاصيل مفيدة عن العناصر التي اقتحمت مكاناً بهذه الحيوية والمكانة في المجتمع الكيني، وكان ممن يحتسون القهوة فيه ساعتها اثنان من عائلة رئيس الجمهورية، فراحا ضحية الحدث! كما دخله بعض الأوروبيين ممن يسهل دخولهم هذه القلعة، لنكتشف أنهم قادة بين المهاجمين «الشباب»!
لن نستطيع هنا تقديم تفاصيل، والحدث لم ينته بعد، لأنه لا معلومات عن طريقة تصفية الموقف بعد خمسة أيام، وقد كان المسؤولون الكينيون يعلنون منذ اليوم التالي للحدث أنه تمت تصفية «العدوان الغاشم»، بينما تتوارد الصور لطوابق مترنحة من المبنى، وعشرات السيارات المحترقة بالقرب منه، وقصص الهاربين، والجثث المنتشلة... ويبدو أن كل ذلك هو سبب عدم صدور تفاصيل حتى نهاية الأسبوع الأول للحدث، واعتذار رئيس الشرطة عن المثول أمام البرلمان، واكتفاء «أمينة محمد» وزيرة الخارجية الكينية بتصريحات دبلوماسية تقليدية حوله.
ومن جانبي لست معتاداً على تصديق مثل هذه الحكايات السريعة المسلية، إلا بما تقذف به من إشارات خفية للبحث الذي ينقلها إلى أعماق أسئلة ملحة حول الحدث. فما سُمِّي تنظيم «الشباب المجاهدين» الصومالي منذ ست سنوات ضمّ مجموعات من أبناء الريف الجنوبي الصومالي، مثلما قيل في حكايات أخرى عن تنظيم «طالبان» الذي تكون من شباب صحارى وجبال أفغانستان! وهذه صورة تقليدية ينشرها الإعلام الغربي عن جماعات إسلامية الآن في سوريا وسيناء، ومن قبلها في ليبيا. وهم غالباً، في مثل هذا الحكي، ممن غضبوا من الإسلام التقليدي ومشايخه... فراحوا يلجأون لسلاح التطهر والجهاد! ولذا كانت حركة الشباب الصومالي جنوبية معظم الوقت، تهاجم العاصمة ووسط البلاد، وتعود لموقعها حول كيسمايو، عاصمة الجنوب الخاضعة سابقاً لأمير الحرب «مورجان». نعجب إذن كيف يصبح هؤلاء الشباب المساكين المحليين، قوة شديدة الخطر، تتنازع قيادتهم عناصر أوروبية وأميركية وافدة! وينتفضون ضد «الكفار» من أوغندا وممباسا ونيجيريا وأخيراً من نيروبى، في عمليات لا يقدر عليها إلا قادة المافيا المعروفة في أوروبا وأميركا!
لقد أقنعتنا أحداث كثيرة في العالم- وفي رأى البعض أوهمتنا- بأن التطرف الديني أصبح ظاهرة نفسية عالمية، تتيح لمؤسسات عالمية (أمنية ورأسمالية) الاقتراب من تلك العناصر المتطرفة. وبدلاً من الحالات المعروفة سابقاً حول قيام أجهزة المخابرات الأوروبية مثلاً بـ«تخريب» حركات الشباب والزنوج والثوار منذ الستينيات، فإنها الآن «تقترب» وتحيي ولا «تخرب»، لاستغلال هذه المجموعات المتطرفة في أعمال إدارة عالمية جديدة للمصالح الكبرى في العالم، ولتنفيذ المواجهات في جو «سلمي» بين الكبار، والاتهام بالإرهاب بين «الصغار»، تحت مسميات المعارضات، ومواجهة الديكتاتوريات. ويتم ذلك بأنماط من «الجهاد» نرى صورها العديدة التي لا تكشفها إلا تلك الوسائل المتقدمة للغاية، والتي لا يمكن توافرها لجماعات مطارَدَة ومتابَعَة. والمشكلة أن شباب العالم وفقراءه يتحملون الكثير لأغراض لا تخطر على بالهم، ولا تثير تساؤلاتهم... ولا أظن أن شاباً في الصومال أو اليمن يتخيل تقنية المدفعية المتوافرة في سيناء أو سوريا!
ولأننا نفتقد حركة فكرية دينية ذات وعي سياسي عال في منطقتنا العربية بوجه خاص، فإننا نعاني الآن من هذه الأفكار والحركات «الجهادية» التي تسارع للارتباط بمخططات أخرى من أفغانستان حتى مواقع أخرى داخل العالم العربي وخارجه. وهى المعضلة التي تفجرها أحداث نيروبي أيضاً. لكنهم في كينيا يعيشون جدلاً مباشراً حول قضايا واضحة، حيث أسهم امتداد اكتشافات البترول والذهب من الساحل الجنوبي للصومال إلى الشمال الغربي الكيني في نقل الصراع الصومالي إلى كينيا خلال السنوات الأخيرة، وذلك بسبب التنافس البريطاني الفرنسي الأميركي على هذه الثروات. وبدت قضايا فساد شهيرة تطال بعض كبار المسؤولين الكينيين. وفي تحليلات أكثر عمقاً الآن للاقتصاد السياسي في كينيا، يقال إن الرأسمالية الكينية، وقد نضجت في السنوات الأخيرة ونضجت إمكانياتها التقنية وتعاقداتها الخاصة في هذا الاتجاه، أصبحت قادرة على دخول المنافسة، وإثارة الاضطراب أمام المنافسة الأوروبية! وفي دراسات أخرى يعتقد باحثون غربيون أن أجهزة المخابرات الأوروبية تعرف تماماً تفاصيل كثيرة عن شبكات العنف المتطرفة، بل تساعدها على الانتقال وتخطيط العمليات حينما تريد ذلك.
الهدف الصومالي البريء وذو المصداقية هو طلب انسحاب قوات كينيا من جنوب الصومال والذي دخلته في عام 2011 بحجة متابعة هجمات الإرهابيين في مناطق الحدود البترولية، وإذ بالصوماليين يهاجمون قلب نيروبي مثلما هاجموا قلب كمبالا لنفس السبب، ودحروا قوات إثيوبيا من قبل رغم عودتها مؤخراً!
والأسئلة كثيرة، حول الحديث عن خلافات وسط حركة الشباب الصومالي، بعضها بسبب مواقف الأوروبيين داخلها! مما أدى بجناح منهم للمسارعة إلى عملية كبيرة مثلما تم في نيروبي للسيطرة على الموقف الداخلي والاتفاقات الخارجية في نفس الوقت!
والإشارات الأخرى تظل موحية، فمن قائل إنها لتبرير استمرار القوات الأجنبية في الصومال لمواجهة «الأشرار» الصوماليين، ومن قائل بأن أصحاب المصالح يقصدون إنقاذ رقبة الرئيس الكيني ونائبه من المحكمة الجنائية الدولية التي ستنظر قضيتهما هذا الأسبوع في لاهاي.
لكن الأسئلة الكبيرة الأخرى أخطر من ذلك... إذ تشمل مدى تغذية المفاهيم الإسلامية «السائدة» لمثل هذه الاتجاهات المتطرفة بين الشباب واستغلال براءتها، كما أن هناك ارتباكاً في علاقة «الإسلام الأوروبي» بالحركة الإسلامية، والذي قيل إنه سيشجع «العقلانية»، فإذا بالأوروبيين فيه يدفعون بالتطرف!
ويبقى السؤال: ما علاقة حركات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط بـ«عالمية» هذه الحركات؟ تأتي الإجابة من «عالمية» هذه الحركات بدورها وإن كان بعضها يتحول في أزماته من إسلام سياسي وسطي إلى أشد المجموعات تطرفاً!