القرآن الكريم بعين الفيلسوف
يفاجئنا الفيلسوف التونسي "أبو يعرب المرزوقي" بكتابه الصادر هذا الأسبوع بعنوان "الجلي في التفسير" (3 أجزاء من مشروع متواصل). والكتاب كما هو واضح مصنف في تفسير القرآن الكريم، بيد أنه في الواقع أول تفسير فلسفي للكتاب المبين، مما يضاعف من قيمته، ويجعل منه حدثاً فكرياً بارزاً في الساحة العربية. فلم يسبق للفلاسفة المسلمين في الماضي والحاضر ارتياد هذا المسلك العصي، على الرغم أن النص المقدس هو المعين الذي خرجت منه الحضارة الإسلامية علوماً وممارسة ونمط وجود.
هيمنت في الفلسفة الإسلامية الوسيطة مقاربتان محوريتان في النظرة للوحي:- المقاربة التخييلية لدى الفارابي التي اعتبرت الوحي نمطاً من التمثيل لتقريب الحقائق العقلية، التي ليس بمقدور عامة الناس الوصول إليها بلغة البرهان. فالعقل الفعال الذي هو "واهب الصور" يمد الفلاسفة بالمقولات العقلية، كما أنه يتقدم للنبي بالرموز التخييلية التي تجسد الصور والمثل في استعارات وتشبيهات متاحة للجمهور.
- المقاربة التأويلية لدى ابن رشد، التي تنطلق من اتفاق الشريعة والحكمة في المقصد والغاية، ومن ثم ضرورة إرجاع "ظنيات" النص إلى "يقينيات" البرهان، فلا يمكن لمضمون الوحي أن يتناقض مع العقل.
ولم تنتج المقاربتان أي تفسير شامل للقرآن الكريم، بل لم تكن مهيأتين لذلك لسبب رئيسي مشترك، هو النظر للنص الكريم من منظور مرجعي خارج عنه، أي رصد دلالاته ومعانيه في مستوى تأويلي مغاير له باعتباره مجرد "تمثيل" لحقائق عقلية هي المقياس والمعيار في الفهم والقراءة.
يستند هذا التصور لموقف مسبق من علاقة العقل بالنص، بحيث يكون النص مجرد وعاء ثانوي للمعنى المستقل في مداه الوجودي ودلالته الذاتية. فالتعبير اللغوي جسد سالب لروح متعالية عليه وسابقة له، مما يتعارض بطبيعة الأمر مع النظريات اللغوية والتأويلية الحديثة، التي بينت أن المعنى ينبع من النص ومن إمكاناته التأويلية الرحبة.
وليس المحدثون من المشتغلين بالفلسفة أسعد حظاً في معالجتهم للقرآن الكريم. لقد توزعوا إلى اتجاهين كبيرين، ذهب أحدهما إلى ضرورة تطبيق مناهج العلوم الإنسانية الجديدة على النص الكريم بهدف معلن هو "نزع القداسة" عنه وإبرازه في رهاناته الاجتماعية والتاريخية، كأي نص خاضع للتداول بين الناس، وذهب ثانيهما إلى التوسع في المنزع المقصدي للقرآن الكريم بغية تغليب اتجاهاته الغائية على الدلالات الحرفية للأحكام.
ترمز أعمال "محمد أركون" إلى الاتجاه الأول، باعتباره اقترح منهجاً متكاملًا لقراءة القرآن الكريم وحاول تطبيقه على بعض السور، دون كبير توفيق. فالمشكل الذي يطرحه هذا المنحى، هو توهم القدرة على تحجيم النص في سياق تأويلي مخصوص، يعتقد أنه المجال الأصلي لظهور النص، من خلال استخدام أدوات منهجية يُظن أنها محايدة وموضوعية، في حين أنها تسخر في فرض قراءة راهنة وموجهة للنص بحسب صراعات وصدامات اللحظة الحالية.
أما الاتجاه الثاني، فيرمز إليه مشروع "محمد عابد الجابري" الأخير في تفسير القرآن الكريم بحسب ترتيب نزول الآيات، الذي إنْ كان حاول فيه التوفيق بين لانهائية المقصد الإلهي ومحدودية سياق التنزيل، إلا أنه سلك فيه مسلكاً كلاسيكياً مدرسياً غاب عنه الهم الفلسفي، وحضر فيه المشغل الإيديولوجي الآني.
يقدم لنا المرزوقي رؤية فلسفية رصينة للمعاني القرآنية، لا بمنظور المفسر التقليدي أو الداعية أو الفقيه. فالرجل لا يغادر أرضية الفلسفة، ولا يتنكر لها في إنصاته لنداء الوحي من حيث هو مسلم مهموم بقضايا الأمة، ملتزم بدينه. فليس كتابه على شاكلة أدبيات "أسلمة المعرفة"، التي تبحث عن صيغ إسلامية من العلوم الإنسانية، ولا على شاكلة كتابات "الإعجاز العلمي"، التي ينتقدها بشدة معتبراً أنها خطر على الدين وإساءة للذكر الحكيم لإخضاعها النص المحكم للنظريات العلمية المتغيرة التي لا مجال للحقيقة فيها.
ينظر المرزوقي بعين الفيلسوف إلى القرآن الكريم في بعدين متلازمين :"حصول الآيات في الوجود الفعلي"، أي النص منزلًا في وقائع خطابية ووجودية، والبعد المطلق اللانهائي في الوحي، الذي هو شرط كل فرضية تأويلية تتحرى فهم النص مع الوعي بالقصور عن الإحاطة به.
يتجاوز المرزوقي بهذا المنهج الثنائية العقيمة بين العقل والنقل (فمتى افترقا حتى في أكثر النصوص خروجاً عن الدين أو تقيداً بحرفيته؟). فإذا كان بإمكان المؤمن الاستفادة من اللطائف البديعة في قراءته لبعض السور الكريمة كاشفاً عن جوانب من بهائها وإعجازها الدلالي، فإن الفيلسوف غير المتدين يجد بنفس المستوى ما يرضيه من رصانة وبراعة في اختراع المفاهيم واستكشاف المسالك الإشكالية الخصبة.
وبذا تصدق على المرزوقي قولة الفيلسوف الفرنسي الكبير "بول ريكور": "لست فيلسوفاً مسيحياً، بل أنا فيلسوف ومسيحي". وتعني هذه العبارة أن الفيلسوف لا يغادر أرضية التفلسف وقواعد التأمل الفلسفي في كل مباحثه التي لا تنحصر في موضوع بعينه. فالمرزوقي يظل في كتابه الأخير فيلسوفاً دون التباس، وإنْ كان الموضوع دينياً بامتياز.
فهو هنا على خطى "هيجل" في كتابه الضخم "دروس في فلسفة الدين" الذي يدرس فيه من منطلق التجربة المسيحية علاقة التلازم بين العقل الذاتي المحدود والروح المطلق، وإمكانات تجسد هذه العلاقة في النظم الإنسانية الموضوعية.
ولئن كانت مرجعية المرزوقي إسلامية صرفة تتكئ على حدوس "ابن تيمية" و"ابن خلدون" (من منظور جديد)، إلا أننا نجد في تفسيره هموم وإشكالات ومفاهيم الفلسفة المعاصرة، التي هي المدخل المطلوب إلى أرضية الحوار الفكري الإنساني، بدل الصيحات الغنائية اليائسة إلى حوار ندي بين الثقافات دون الاستعداد لدفع الاستحقاقات الفكرية الضرورية لمثل هذا الاعتراف المنشود.
نخلص إلى القول، إن القرآن الكريم تحول بفعل عوامل معروفة إلى دائرة الاهتمام الأولى راهناً، فتعددت ترجماته، وكثرت الكتابات عنه (سلباً غالباً)، ولذا فليس بأجدر من الفيلسوف المسلم من تقديمه التقديم المناسب للإنسانية المعاصرة.