قراءة في الأزمة السورية- العراقية
في الخامس والعشرين من الشهر الماضي تبادلت بغداد ودمشق سحب سفيريهما كل لدى الأخرى في واحدة من أخطر الأزمات في العلاقات العراقية- السورية منذ الاحتلال الأميركي للعراق في2003، وذلك بعدما طالبت الحكومة العراقية سوريا بتسليم قياديين بعثيين مقيمين في أراضيها بتهمة الضلوع في تفجيرات الأربعاء الدامي الموافق التاسع عشر من الشهر الماضي، والتي استهدفت وزارات ومؤسسات في العاصمة العراقية، وأدت إلى مصرع حوالي مئة عراقي فضلا عن إصابة المئات. وقد وسّعت الحكومة العراقية من نطاق الأزمة بمطالبتها الحكومة السورية بالإضافة إلى ما سبق بتسليم جميع المطلوبين قضائياً ممن ارتكبوا جرائم قتل وتدمير بحق العراقيين وممتلكاتهم، وطرد المنظمات الإرهابية التي تتخذ سوريا مقراً ومنطلقاً لها.
وردت سوريا بإبداء الاستعداد لاستقبال وفد عراقي يطلعها على الأدلة التي تتوفر لديه عن منفذي التفجيرات، وإبداء الدهشة من تناقض التصريحات العراقية مع تصريحات سابقة لرئيس الوزراء العراقي عقب التفجيرات تحدث فيها عن "خلافات داخلية" تقف وراء التفجيرات، وإشارة وزير الخارجية العراقي إلى "تواطؤ في الأجهزة الأمنية العراقية". ولم تعلق الدوائر الرسمية العراقية على رد الفعل الأخير هذا تحديداً، ولكنها أبدت فقدانها الثقة في أية معالجة للأزمة عن طريق إرسال وفود إلى سوريا لسابق خبرتها بالمماطلة السورية في هذا الصدد.
واستمر التصعيد باتهام رئيس الوزراء العراقي دول جوار للعراق بأنها حاضنة للإرهاب، وتسعى لإفشال العملية السياسية، وكان الأخطر من ذلك تهديده بالرد بالمثل على سوريا: "ليس صعباً علينا القيام بما قاموا به من أعمال تفجير، وبإمكاننا أن نفعل هذا، ولدينا الخبرة والقدرة والقابلية(!)، ونعرف كيف وأين"، إلا أنه عاد فاستدرك بأن "القيم" تمنعه من ذلك، وكذلك رغبته في التوصل إلى اتفاق مع هذه الدولة للتخلص من الإرهابيين، وحرصه على ذلك. وربما كانت آخر حلقة في سلسلة التصعيد هي التهديد العراقي باللجوء إلى الأمم المتحدة ودول تربط العراق بها علاقات ثنائية قوية للعمل على تسليم المطلوبين، وكذلك الدعوة إلى تشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة المجرمين الذين نفذوا هذه التفجيرات على غرار المحكمة اللبنانية التي شكلت لمحاكمة قتلة الحريري.
لست معنياً في تحليل هذه الأزمة بالتحقق من سلامة موقفي طرفيها، ولكن اهتمامي بدلالتها في النموذج العام لتطور الصراعات العربية- العربية، وأول ما يلفت النظر أن هذه الأزمة وقعت بعد أسبوع واحد فقط من توصل سوريا والعراق في الثامن عشر من الشهر الماضي (أي عشية التفجيرات الدامية) إلى اتفاق ينص على تأسيس "مجلس تعاون استراتيجي" بين دمشق وبغداد "لتعزيز التعاون في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية بما في ذلك مجالات الأمن والتعاون العسكري"، وذلك برئاسة رئيسي مجلسي الوزراء في البلدين. ويعني ذلك أن الطابع المؤقت العشوائي الذي يتسم بعدم صدقية التحالفات العربية التي كثيراً ما تنشأ عقب صراعات حادة ما زال سائداً: هل نذكر اتفاق الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق الموقع في 17 أبريل1963 بعد خلاف شرس بين عبدالناصر في مصر و"البعث" في كل من سوريا والعراق؟ وكيف أنه لم يعش سوى ثلاثة عشر يوماً؟ وهل نذكر اتفاقات الوحدة بين شطري اليمن التي كانت تعقب كل جولة من جولات الصدام بينهما بدءاً بنهاية ستينيات القرن الماضي وحتى تحقيق الوحدة اليمنية في 1990؟ وكيف كانت تنهار سريعاً في كل مرة. وهل نذكر ميثاق العمل القومي بين سوريا والعراق في أكتوبر 1978 عقب توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في سبتمبر من السنة نفسها على أساس أن ذلك الميثاق قد أسس للتصدي لنهج كامب ديفيد؟ وكيف أن صدام حسين بعد شهور قليلة اتهم القيادة السورية في يناير 1979 بالوقوف وراء محاولة لقلب نظام الحكم في العراق، وعاد النزاع العراقي- السوري إلى سيرته الأولى إن لم يكن أشد؟ والأمثلة غير ذلك كثيرة، لكنها تفضي كلها إلى الحقيقة نفسها، وهي هشاشة التحالفات العربية، وانتكاسها إلى الحالة الصراعية، لأن الصراعات بين الدول العربية لا تحل، وإنما يتم العبور فوقها، أو تهدئتها على أحسن الأحوال، وحتى العلاقات المستقرة نسبياً، كما هو الحال في العلاقات المصرية- الليبية التي لم تشهد هزات قوية منذ عودة هذه العلاقات في 1989 بعد القطيعة التي سببتها اتفاقيتا كامب ديفيد لا يمكن وصفها بأنها تحالف، وإنما هي تعكس فحسب حالة من الاستقرار النسبي في نمط العلاقات.
أما الدلالة الثانية فتشير إلى أن استمرار العلاقات العربية- العربية على هذا المنوال من شأنه أن يفاقم الاختراق الخارجي للنظام العربي، ونعرف ما سببه الغزو العراقي للكويت عام 1990 من تدخل هائل في أخص شؤون النظام، وهو الشأن الأمني، وها نحن نرى أن الأزمة الراهنة في العلاقات العراقية- السورية قد أفضت إلى وساطتين إيرانية وتركية بين البلدين، فقد دعت إيران إلى عقد اجتماع في أقرب فرصة لدول جوار العراق لمعالجة الأزمة واحتوائها، وهو أمر متوقع بالنظر إلى تمتع إيران بعلاقات طيبة مع نظامي الحكم في العراق وسوريا. أما تركيا فقد أبدت قلقها من تفاقم الأزمة، وبغض النظر عن الكلمات الطيبة التي صدرت عن دوائر تركية مسؤولة بخصوص الحرص على استمرار عملية دمج العراق في بيئته العربية، فإن الأمر الذي لاشك فيه أن تركيا تخشى مزيداً من الفرقة العربية التي تفاقم بدورها الاختراق الإيراني للنظام العربي، ولذلك أعلن عن وساطة يقوم بها وزير الخارجية التركي بين سوريا والعراق.
أما الدلالة الثالثة والأخيرة -ولعلها الأهم- فتشير إلى التحقق من صحة فرضية أن الصراعات العربية- العربية تعود أساساً إلى عوامل بنيوية تنبع من النظام العربي وليس من بيئته الخارجية، ولقد كان ثمة افتراض مضاد بأن العوامل الخارجية هي الأساس، وتفرع عن هذا الافتراض افتراض آخر بأن العلاقات الطيبة للولايات المتحدة بعد غزوها العراق مع جميع عناصر النظام الخليجي العربي (دول مجلس التعاون الست +العراق) ستخفض على نحو ملحوظ شدة الصراع بين هذه العناصر، لكننا نذكر الأزمة الأخيرة في العلاقات العراقية- الكويتية في مايو ويونيو الماضيين، بسبب موقف الكويت من إخراج العراق من وصاية الفصل السابع، وكذلك قضية الديون. ويعني هذا أن علاقات العراق بجيرانه العرب بعد الاحتلال الأميركي عادت إلى ما كانت عليه قبل ذلك من نزاعات شديدة مع كل من الكويت وسوريا، والمعنى أوضح من أن يفصّل، بل إنه يمكن الزعم بأن العلاقات العراقية- السعودية كانت مستقرة نسبياً إبان حقبة صدام وحتى غزوه الكويت، ولكن هذه العلاقات تعرضت بدورها إلى أزمة في مايو الماضي بعد تصريح المالكي بأن العراق سيمتنع عن اتخاذ أية مبادرات إضافية تجاه السعودية، لأن مبادراته السابقة فهمت خطأً على أنها ضعف من الجانب العراقي، وهي أزمة تجددت باتهام المستشار السياسي للمالكي السعودية في أغسطس الماضي بتأجيج العنف في العراق!
إن الطريق واضحة إذن أمام كل من يريد حل الصراعات العربية- العربية، أو على الأقل تسويتها بما يتيح للنظام العربي فرصاً أفضل لتحقيق غاياته: إما أن ننظر في أنفسنا لنرى العوامل البنيوية العربية التي تسبب هذا كله، وإما أن ندفن رؤوسنا في الرمال كي لا نرى هذا التكرار السخيف لمشاهد الصراعات بين أجزاء الأمة الواحدة تضعف مناعتها في مواجهة الأخطار، وتأكل عناصر قدرتها على تحقيق غاياتها، بل وتنهش مقومات بقائها أصلا.