ابن تيمية... الفقيه المكفر أو الفيلسوف المتنكر؟
"سعود السرحان " باحث سعودي، أصدر مؤخراً كتاباً بعنوان "الحكمة المصلوبة :مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة"، أثار جدلا واسعاً داخل الساحة السعودية، في سياق الصراع الفكري المحتدم بين الاتجاهين السلفي والليبرالي. والصورة التي قدمها "السرحان" لابن تيمية تتلخص في كونه فقيهاً متشدداً، يدعي باطلا معرفة الفلسفة وعلوم المعقول، في حين أن معلوماته الفلسفية ضحلة ومغلوطة ومستمدة من مصادر ثانوية أو غير دقيقة.
والواقع أن ابن تيمية رهان رئيسي في معركة الأفكار المشتعلة حالياً بقوة في الساحة الإسلامية اليوم.
والجلي أن الأمة لم تختلف ماضياً وحاضراً في أحد أعلام الإسلام، أكثر مما اختلفت في ابن تيمية... بين من أطلق عليه لقب "شيخ الإسلام" وادعى له الاطلاع في اللوح المحفوظ كما هو شأن تلميذه ابن القيم، وبين من رماه بالزندقة والابتداع والغلو، وهم كثيرون (كابن حجر المكي وتقي الدين السبكي وصلاح الدين الصفدي من القدماء).
ولا شك أن إنتاج الرجل الغزير المتنوع الذي شمل كل اهتمامات وعلوم عصره قابل لقراءات متباينة، متعارضة، لكل منها شرعيتها ووجاهتها، كما أن مساره الشخصي العاصف الذي توزع بين لحظات تكريم قليلة وسنوات امتحان وتنكيل طويلة، أضفى مسحة مأساوية على تجربة فريدة ارتبطت بمرحلة قاتمة من تاريخ أمة الإسلام، كان فيها ابن تيمية شاهداً على عصره، فاعلا في قضايا مصره ودهره.
ومن نافل القول إن صورة ابن تيمية في الفكر الإسلامي المعاصر، قد ارتبطت بالقراءات السلفية الجديدة لأعماله، بحيث تحول إلى السلطة المرجعية الوحيدة للدعوات الإصلاحية السلفية عقيدة وفقها، وأهمها بطبيعة الحال الدعوة الوهابية التي احتضنته واستندت إليه.
بل إن الاتجاهات السلفية المتطرفة، سلكت المسلك ذاته في توظيفه والاستشهاد بآرائه وأحكامه في تبرير نزعتها التكفيرية الاقصائية، وفي خروجها العنيف على المجتمع والدولة. وظهرت دراسات عديدة تفسر ظاهرة "الإرهاب الأصولي" بالإحالة إلى كتابات ابن تيمية التي اعتبرتها "الحجر الذي خرجت منه الأفعى الإرهابية".
إلا أن هذه الصورة التي تبلورت خارج الحيز العلمي الدقيق والموضوعي، بدأت تنهار في السنوات الأخيرة، بعد أن تحول اهتمام بعض الوجوه الفلسفية والفكرية المرموقة إلى دراسة أعمال ابن تيمية من منظور آخر، أبرزها دون شك الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي، الذي دشن هذا المسلك في كتاباته الغزيرة.
ومن الواضح أن هذه الصورة الجديدة، لا ترضي السلفي المتشدد الذي يتشبث بالقراءة الوهابية المتأخرة، ولا الليبرالي المتسرع الذي يسقط كل أخطاء الأصولية المتطرفة على نص ابن تيمية.
وليس من همنا استعراض مشروع ابن تيمية والوقوف عند أفكاره وتصوراته الأساسية، فللموضوع سياق آخر. وإنما حسبنا الإشارة إلى ما نعتبره الإشكالية المحورية في فكر ابن تيمية مع ضبط مقوماته المنهجية الرئيسة.
هذه الإشكالية تتمحور حسب قراءتنا (التي لا تخفي تأثرها بالمرزوقي) حول سؤال واحد هو :كيف يتعين الخروج بالتقليد الإسلامي من مأزق العقلانية الكلامية التي انتهت إلى دمج الميتافيزيقيا اليونانية عبر المنطق الأرسطي ونظرية النفس الأفلاطونية في أسسها العلمية وخلفياتها الأخلاقية؟ أي بعبارة أخرى، ما السبيل إلى استكمال مشروع الإمام الغزالي بإحياء علوم الدين في مواجهة خطر التمزق الطائفي والعقدي، الذي أضعف كيان الأمة وعرضها للغزو الخارجي(المغولي والصليبي) وخطر الجمود المعرفي والعقم الفلسفي، بعد أن تحول التقليد العلمي إلى مذاهب مغلقة ومسلمات محنطة؟
للإجابة على هذا الإشكال، بلور ابن تيمية عدة منهجية تقوم على فكرة واحدة هي تلازم "صريح المعقول لصحيح المنقول" (عنوان أحد كتبه الأساسية). وتعني هذه الفكرة المبتكرة رفض نمطين سائدين من الاختزال هما: اختزال المعقول في المعقول الفلسفي اليوناني، واختزال المنقول في الأفق التأويلي التراثي. فالوعي بهذين الاختزالين شرط ضروري لإعادة تصور مسالة العلاقة بين العقل والنقل، أو الفلسفة والدين.
فمن الخلف اتهام ابن تيمية بأنه لا يعرف الفلسفة، أو أنه متحامل على الفلاسفة. فمن يدرس بتمعن كتاباته في العقائد وردوده على الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين، يخرج بانطباع قوي بأن الرجل من أكثر علماء الإسلام إطلاعاً على الفلسفة وأمهرهم في المباحث الكلامية، وأن نقده للمعقول الفلسفي والكلامي، ليس سوى الجانب السلبي من نظرة فلسفية عميقة تتمحور حول تحرير المعقول من الميتافيزيقيا اليونانية وجودياً، ومن قيود المنطق الأرسطي إجرائياً لبناء عقلانية منفتحة تتقيد بضوابط التجربة في بعديها الديني والإنساني.
فهو من القلائل الذين انتبهوا إلى أن المنطق الأرسطي ليس علماً محايداً لا تستغني عنه الشريعة، بل هو خلاصة الرؤية الميتافيزيقية المبنية على أنطولوجيا الجواهر والأعراض، التي لا يمكن أن تتلاءم في العمق مع التصورات الدينية، كما أنها تتصادم مع النظرة التجريبية للطبيعة التي أخذ بها ابن تيمية في نزعته "الاسمية"، التي ترى الوجود أعراضاً بلا جواهر، أي ظواهر تخضع للتقويم والتأويل وليس أشياء في ذاتها.
وما اعتبره السرحان وغيره قصوراً في الاطلاع على الفلسفات اليونانية أو تشويها لها هو من أوهام غير المتخصصين. فللفلاسفة طريقة في قراءة سلفهم ليست هي طريقة مؤرخي الفلسفة، الذين يهتمون بالجزئيات والتفاصيل الحرفية، ذلك أن تأويلات الفلاسفة لمن سبقهم ولمعاصريهم هي من مقومات نظرتهم الفلسفية ذاتها، ولذا لا معنى لاستخلاص معلومات مدرسية عن أفلاطون أو ديكارت في كتابات هيجل أو هايدجر على الرغم من كثرة ما كتبا عنهما. فعلى الرغم أن ابن تيمية يخضع الأقوال الفلسفية للمعجم الإسلامي، إلا أن آراءه الفلسفية تتسم بالطرافة والإبداع في كثير من الأحيان، كأقواله غير المسبوقة بأزلية الحدوث والحدوث في ذات الله والخلق المتواصل ونظرية الصفات كأجناس وأنواع وفناء النار (درس عبدالحكيم أجهر هذه الآراء في كتاب له حول ابن تيمية). ولقد جرت بعض هذه الآراء على الرجل أحكام التكفير والرمي بالزندقة.
كما أن ما يتهم به ابن تيمية من انغلاق في النصية ورفض للتأويلات العقلية ليس سوى رفض لبناء سلطة تأويلية بغير حق تكون بذرة أرثوذوكسية مفروضة على غرار المؤسسة الكنسية. لقد انتبه إلى أن إعادة بناء القياس التمثيلي على الحد المنطقي ينفي عن الفقه ظنيته الخصبة، في حين دافع ابن تيمية عن ظاهر النص لا نبذاً للاجتهاد والتعقل، وإنما حفاظاً على مساحة الثوابت القطعية المحدودة وتوسيعاً لدائرة المباح الذي هو الأصل في الأشياء.
وإذا كان الرجل حارب الكلام، واعتبره إفساداً لعقائد العامة التي يجب تركها على أوهامها التشبيهية والتجسيمية الحرفية، فلا يعني ذلك أنه ينحاز إلى هذه التصورات البدائية، كما يظن عادة. فهو كغيره من كبار الفلاسفة يؤمن بالحقيقة المزدوجة وبالفصل المنهجي بين مسلك التخييل والوهم الذي هو عماد معارف عامة الناس، ومسلك العقل والتجريد، الذي هو من خصائص النخبة، وكل خلط بينهما يؤدي إلى إفساد الدين والفلسفة معا.
بقي القول إن الكثير من كلام الرجل قابل للتأويل المتشدد كبعض النصوص التكفيرية والتفسيقية الحادة التي لا يخلو منها أي نسق أيديولوجي. لكن ما الذي يبرر استنتاج فكر وسياسة ستالين من نصوص ماركس؟