خطة الإنقاذ المالي الأميركي... دلالات وآفاق
الموضوع الأول في السياسة الدولية اليوم لم يعد إيران ولا روسيا وعلاقاتها المضطربة بالدول المحيطة حديثة الاستقلال ولا كوريا الشمالية وعودتها لإنتاج قنابل ذرية، ولا يمكن بالطبع أن يكون المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
الموضوع الأول هو فرص نجاح برنامج إدارة بوش في إنقاذ النظام المالي الأميركي المتداعي.
البرنامج كما هو معروف يخصص 700 مليار دولار لهذا الغرض ويمكن اعتباره أضخم برنامج انقاذ اقتصادي في تاريخ العالم وفي تاريخ الرأسمالية ذاتها. ومقارنة به لم ينفق الرئيس الأهم والأكثر ثقافة وذكاءً في تاريخ أميركا، وهو روزفلت، سوى ملاليم على خطته المعروفة باسم "النيوديل"، رغم أنها أعادت بناء الاقتصاد الأميركي كلية ولم تكتف بإنقاذه. ولا زالت "النيوديل" هي الأساس المادي للمجتمع الأميركي الحالي، وربما تفسر استمرار نجاحه رغم كل التصدعات والتشققات الكبيرة في تكوينه وثقافته.
المقارنة بين البرنامجين تكشف في الحقيقة عن أيديولوجيتين وثقافتين وذهنيتين بل وتاريخين مختلفين ومتضاربين لأميركا. وبينما عالجت خطة روزفلت القصور الاقتصادي واهتمت ببناء مرافق البنية الأساسية، تتعامل خطة بوش مع الجانب المالي وحده.
ومن وجهة نظر القوى التقدمية في أميركا اليوم، فبرنامج بوش كارثة حقيقية على الاقتصاد الأميركي وفرصه في النجاح قليلة للغاية. يقول الاقتصادي الأميركي العظيم بول كروجمان إن التسمية الحقيقية لهذا البرنامج هي "الكاش مقابل التراش": أي المال مقابل الزبالة. فهو يدعم الشركات الكبرى التي دفعت القطاع المالي للانهيار مقابل لاشيء أو أنه منحة للرأسمالية المالية الكبيرة دون إلزامها بشيء. ويصفها دينيس كوزينيتش أهم نائب تقدمي في مجلس النواب الأميركي بأنها أكبر عملية نصب مالي في التاريخ الأميركي. فهي ورغم تعديلات الكونجرس، لا توجه أي لوم ولا تقوم بمساءلة الشركات والبنوك المسؤولة عن الأزمة ولا تعاقبهم، بل تكافئهم على ما قاموا به. وهي أيضاً تستدعي الاشتراكية في تحمل الخسارة لتدعم حق الرأسمالية في الحصول على الأرباح دون قيد أو شرط.
وكانت مسؤولية هذه الشركات، وخاصة شركات الاستثمار والمشورة وشركات الرهن العقاري، ساحقة ومؤكدة في تخريب النظام المالي الأميركي. ووصل الحال إلى درجة أن بعض الشركات، ومنها "ميريل لينش" و"ليمان برذرز" وشركتا "فريدي ماك" و"فاني ماي"، قد قدمت قروضاً تصل إلى 43 ضعف حجم رؤوس أموالها، ما جعلها عرضة للانهيار مع توقف المقترضين عن الدفع بسبب الركود في سوق الإسكان. ووقعت هذه الشركات في هذا الكم من الأخطاء والممارسات غير المسؤولة بسبب الجشع، كما أشار المدافع الأول عن الرأسمالية الأميركية "آلان جرينسبان" الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي وأهم شخصية اقتصادية في أميركا. وكان هذا الجشع هو ما دفع نحو إلغاء الرقابة والأطر المقيدة للممارسات الضارة في القطاع المصرفي والمالي. لذلك ركزت الرؤية التقدمية الأميركية فيما يتعلق بإنقاذ هذا القطاع المالي على إعادة فرض قانون جلاس ستيجال الذي يمنع المضاربة وإعادة النظم والترتيبات التقييدية على صناعة التأمين والمال والعقارات. وأشار "دينسيس كوزينينتش" لضرورة مساءلة المسؤولين في هذه الشركات والتوسع في فرض الشفافية بما يحول دون اتخاذ قرارات والعمل وفق سياسات غير مسؤولة. وتطالب المجلات والمواقع الإلكترونية التقدمية والديموقراطية بالتحقيق في الاتهامات بالنصب الذي تورطت فيه أكثر من 26 شركة في وول ستريت بما فيها شركات الاستثمار العملاقة التي كانت السبب وراء الأزمة.
أما الاقتصادي الكبير كروجمان فيرى أن برنامج وزير الخزانه بولسن قد يهدئ الأزمة ويعيد الاستقرار للأسواق المالية لكنه لا يتيح في الحقيقة تمويلاً إضافياً أو سيولة نقدية لقطاع المال. ويشرح هذه الحقيقة كما يلي. نشأت الأزمة عن انفجار فقاعة الإسكان مما قاد للعجز عن السداد ومن ثم انهيار قيمة السندات والأوراق المالية المسجلة للقروض العقارية في السوق الحرة. ومع بيع السندات بأقل من قيمتها، تهبط أسعار المساكن وهو ما يضاعف صعوبة استرداد القيم الاقتصادية الحقيقية للقروض. وتسعى خطة بولسون إلى شراء الأوراق المالية والسندات أي الأصول المالية المأزومة بما يعيد القوة إلى المؤسسات المالية التي وقعت في أسر الأزمة. لكن حتى لو نجحت هذه الخطة فهي لا تقوي المركز المالي لهذا القطاع إلا إذا بالغت الحكومة في شراء هذه الأصول بأعلى من قيمتها. ويرى كروجمان، وهو من أهم أنصار مدرسة "النيوديل"، أنه كان يجب على الحكومة أن تطبق نفس المقاربة التي اتبعتها مع شركتي "فريدي ماك" و"فاني ماي"، أي شراءهما. فليس من العدل أن تنقذ الحكومة الشركات الرأسمالية الكبيرة بدون مقابل ومن مال دافعي الضرائب. وكان يجب على الأقل أن تبادل الحكومة "الكاش" المدفوع في الإنقاذ بالحصول على أسهم هذه الشركات بنسبة ما تدفعه الحكومة لرأسمال الشركات التي يتم إنقاذها. وكانت إدارة بوش نفسها، وبولسون ذاته هو الذي أتخذ هذه المقاربة لحل الموقف المتفجر في سوق الرهن العقاري. لكن هناك فارقا بين إنقاذ شركتين بتكلفة بسيطة هي 25 مليار دولار ودفع مبلغ الـ700 مليار دولار لإنقاذ القطاع المالي كله. ومع ذلك تراجع بولسون عن تطبيق نفس المقاربة.
لهذا السبب يشعر قطاع كبير جداً من الأميركيين أن خطة بولسون ليست عادلة ولا مفيدة بالضرورة. ووفقاً لاستطلاع قامت به محطة تليفزيون CNBC مع مجلة "بروفيل"، يوافق على هذه الخطة 31 في المئة ويعارضها 33 في المئة من الأميركيين بينما لم يعبّر الباقي عن رأي محدد. ويعني ذلك عموماً أن الشعب الأميركي لديه تحفظات قوية على هذه الخطة. ويعني ذلك تضاعف مستويات الوعي بين الأميركيين وخاصة أن الرئيس حشد عدداً من أبرز الشخصيات الاقتصادية الأميركية وعلى رأسهم برنانكه الرئيس الحالي للبنك الاحتياطي الفيدرالي لتبريره و"تهديد" الأميركيين والكونجرس بأن عدم الأخذ بهذا البرنامج سيكلف أميركا توقف النمو ويكلف الأميركيين خسارة نسبة كبيرة من الوظائف، وقد يزج بالبلاد في أسوأ أزمة انكماش اقتصادي منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
وفي تقديري أن لهذا البرنامج فرصة معقولة للنجاح في إعادة الإستقرار للنظام المالي الأميركي بصورة مؤقتة. فهو يطمئن المستثمرين، والأهم أنه يؤكد أن الحكومة تضمن حتى الخاسرين ولا تسمح بخروجهم من السوق كما تنص على ذلك قوانين الرأسمالية في الكتب.
لكن البرنامج في حقيقته يعمق الضعف الهيكلي للاقتصاد الأميركي على المديين المتوسط والطويل. فالمشكلة الاقتصادية الأميركية ليست في الائتمان ولا في السيولة. بل قد تكون في فائض سيولة نشأ عن ادمان الاعتماد على المدخرات الأجنبية وبالذات من الصين واليابان وأوروبا والعالم العربي. وخطة بولسون قد تتيح أموالاً عملاقة لقطاع اعتاد التصرف بعدم مسؤولية، لكنها لا تعالج نقاط الضعف في البنية المادية للاقتصاد، وبالذات تناقص طابعه التصنيعي وانخفاض قدرته على الادخار وتقادم بنيته الأساسية وضعف ضماناته الاجتماعية وتدهور نظام التعليم والزيادة المصطنعة في الاستهلاك بأكثر من القدرات ومن الدخول الحقيقية للأميركيين. وفضلاً عن ذلك يعاني الاقتصاد الأميركي من المديونية الخارجية والداخلية رغم صرف جانب كبير من السيولة الفائضة والفائقة الضخامة ليس على إنقاذ الاقتصاد من التراجع وإنما على المضاربة المالية البحتة. لقد أصبح الاقتصاد نقدياً بامتياز لكن على حساب قاعدته المادية والاجتماعية الحقيقية. ومن المؤكد أن الخطة لم تقدم شيئاً إيجابياً لحل التصدعات والمفارقات المنتجة للأزمات في الاقتصاد العالمي. إنها تتخصص في إنقاذ الأغنياء الأغبياء وفي الإضرار بالمنتجين الحقيقيين وأصحاب الأخلاقيات الرأسمالية الإيجابية.