تحديات الحوار الثقافي العربي- الأفريقي
فى أسبوع واحد أتيح لي حضور لقاءين على مستوى متميز في أبوظبي والشارقة. طرق كلاهما على الوضع الثقافي العربي سواء في مواجهة تحدياته الكبرى (ندوة صحيفة الاتحاد) أو في قدرته على الحوار مع الغير (ندوة الشارقة). وبالنسبة لمهتم مثلي بالثقافات الأفريقية أساساً، رحت أرقب موقف المثقف العربي عموما ومدركاته من هاتين الزاويتين المهمتين. وقد كانت المناقشات جادة ومعمقة في الحالتين، وجمعت شخصيات تعتبر عناوين للموضوعين من أنحاء العالم العربي، ولذا سأعتبر أن اجتماع هذا الحشد في منطقة الخليج في أوقات متقاربة، إنما يثير الانتباه إلى قيمة حضور عدد من القضايا في مثل هذه الاجتماعات. ولكن في تقديري أن الانتباه يجب أن يمضي أكثر قليلاً أو كثيراً إلى معنى غياب بعض القضايا المهمة عن فضاءات الثقافة العربية التي تريد أن تلحق بما يجري في العالم منطلقة من أطراف الوطن العربي، وقد تثير همة مراكز الاستراتيجية.
أقول إن الحاضر من القضايا بات مألوفاً إلى حد كبير، تردده أجهزة الإعلام تارة، وتنشأ حوله المنتديات والمؤتمرات تارة أخرى، مثل قضية العولمة وآثارها، وقضية التراث بين الأصالة والمعاصرة...الخ وسوف يجد القارئ بالضرورة عروضاً لمعظم ما قيل في هذا الصدد من قبل مفكرينا الأفاضل هنا وهنالك، وقد كان التأكيد واضحاً على ضرورة فهم أبعاد العولمة خاصة في المجال الثقافي بسبب القلق المتزايد على حالة التحديث في مجتمعاتنا وحالة الانفصام بين دور الدولة ودور المجتمع، وحالة الارتداد التي تُصاب بها مجتمعاتنا مؤخراً بحجة مواجهة العولمة بينما تدفع أمواج أخرى للاندماج بما يهدد الخصوصية الثقافية التي يجري دائماً الكشف عن عناصرها.
لكنى وجدت من خلال ندوة صحيفة "الاتحاد" حول تحديات الثقافة العربية فى عصر العولمة، أننا ما زلنا في احتياج شديد لدراسة تجارب عديد من شعوب ودول الجنوب في مجال التحدي والحوار، بل إن الواجب أكثر أن نشد بزمام الثقافة العربية نفسها في اتجاه الجنوب، إزاء ما نلاحظه جميعاً من غلبة "الهم الشمالي" على قضايا التحدي، أو التكيف، بينما تاريخ الثقافة العربية زاخر بحركة اللقاء مع شعوب الجنوب منذ كان ازدهار الثقافة الإسلامية حين حملتها أدوات الاتصال والحوار من المركز العربي الإسلامي في تلك العصور إلى دول وشعوب الجوار الممتدة في آسيا وأفريقيا بقدر ما وصلت لأوروبا.
وكان نتاج ذلك أنماطا من الإبداع الثقافي العربي الإسلامي من بحوث البيروني إلى عالم التصوف، إلى فنون الشعر الأندلسي، إلى أدب الرحلات الزاخر بفنون المعرفة بدوره. ونحن لن نستطيع الحديث عن تفاعل ثقافي عالمي عند العرب ما لم نتوصل لإعادة التفاعل مع ثقافات الجنوب مثلما نحن "مأخوذون" بثقافة الشمال، ناهيك عن أنماطهم الحياتية، والانخراط في دائرة رأس المال الغربية العالمية بالأساس... من أجل ذلك فإني ما زلت أكرر هنا الطلب بأن تخصص دوائر الحوار الاستراتيجي في المرحلة القادمة حول تفاعل ثقافات الجنوب في ظروف العولمة أيضاً... ووضع الثقافة العربية في هذا الإطار.
في الشارقة كان الحوار مختلفاً حول دور التراث في حوار الثقافات. ونال التراث الشعبي حظاً ملموساً من المناقشة، خاصة بعد أن استفاق اليونسكو إلى هذه الزاوية في برامجه مؤخراً، وإن كان مفهوم التراث الشعبي الذي يقترن بالثقافة الشعبية وعناصرها الحياتية والفنية، يكاد يتوه في تلافيف مفهوم الثقافة غير المادية التي ستتواصل مع مفاهيم جزئية للثقافة أحياناً كثيرة، فتدفع بالمناهج إلى التفتيت الكلي في الثقافة بعد أن كان نهج اليونسكو لفترة حول "الثقافات الوطنية الكلية". والفارق واضح حين نبحث فى شعار اليونسكو الآن حول "التنوع والوحدة" في الثقافة العالمية. وشتان بين طريق التفتيت والتفكيك لفرض التنوع وبين متطلبات دفع الهويات الثقافية الوطنية مع احترام تنوعها. من هنا كان حوار ثقافات الجنوب، ودور التراث الشعبي وامتداداته هنا وهنالك باباً جديراً بالاهتمام. ومن هنا أيضاً بدت ضرورة الاهتمام بالتراث الشعبي بفهم معمق لامتداداته على مستوى عربي- أفريقي، وعربي آسيوي، وليس بمفهوم "الثقافات المحلية" أو ثقافة الجماعات النوعية والأقليات وحدها. وقد عرضت على الحضور مثلاً لذلك في الفضاءات التي تحركت فيها سيرة الهلالية، وعنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن. كما عرضت سيراً أفريقية مثل "سونجاتا" عن مسيرة شعب "الماندنج" ومالي، أو قصص شعوب "الهوسا" التي تقترب من "ألف ليلة وليلة" وتربط سيرة شعوب غرب أفريقيا – وليس فقط شرقها – بسير أبناء الجزيرة العربية. من هنا كانت ذكرياتنا مع قاعة الشارقة الكبرى المسماة قاعة أفريقيا منذ 1976حتى الآن. وقد كان لي شرف المشاركة في أولى ندوات العلاقات العربية- الأفريقية في شتاء 1976، كأولى محاولات دفع دور المثقفين في العمل العربي الأفريقي المشترك الذي شهد بعض انطلاقاته الجديدة عقب حرب 1973. وفي الشارقة انطلق الحوار في تلك الندوة - جديداً بالفعل، بل وحاداً أحياناً رغبة من المثقفين الأفارقة والعرب على السواء أن يكاشف بعضهم بعضاً، حول أكثر القضايا حساسية، من تجارة الرق، إلى تجارة البترول، ومن التبعية الفرانكفونية أوالأنجلوفونية،إلى عرض الرؤية أو ترددها حول الصهيونية ...الخ.
وفى هذه الأجواء وعد صاحب السمو حاكم الشارقة بتسمية كبرى قاعات الإمارة باسم أفريقيا. وكان الأمل أن يمتد الحوار ويتنوع في إطار هذه (القاعة – الفكرة) على مدى ثلاثين عاماً حتى الآن، لكن ما نال التعاون العربي الأفريقي نفسه من نكسات، نال ذاكرة المثقفين بدورها إزاء زحف آليات العولمة المتنوعة على مختلف القضايا. وربما تنوع العمل الثقافي وخططه في الشارقة وغيرها من المواقع العربية وأعتقد أن الجهد هناك حول قضايا التراث جهد ملموس يمكن أن نشد امتداداته إلى الساحة الأفريقية مثلما هو حي في عدد من الدوائر الأخرى.
إن قاعة " أفريقيا " بالشارقة، يمكن بالفعل أن تكون مركز إشعاع متجددا في مجال حوار الثقافات الأفريقية مع الثقافة العربية، كزاوية ينفرد بها هذا الموقع أكثر من غيره. وإذا كان الخليج قد بات مزدحماً بأشكال العمل الثقافي ومشروعاته أو جوائزه ومنتدياته، فإن وجود قاعة باسم أفريقيا ذات تاريخ في هذا المجال منذ تدافع اللقاء العربي- الأفريقي لفترة، يمكن أن يدعم بقوة حوارات جنوب – جنوب الثقافية منطلقة من قاعة أفريقيا بالشارقة. من الممكن أن تنطلق من هنا برامج الترجمة والندوات المتخصصة، وجمع ودراسة ألوان التراث الشعبي، وذلك في إطار دراسات مشتركة ومهرجانات للفنون ومكتبات كبرى ثابتة ومتنقلة، فضلاً عن تشجيع الإبداع الأدبى وتبادل عرضه أو نشره في العواصم العربية الأفريقية، ولنستثمر النوايا الحسنة في الشارقة، ليلعب أبناء الخليج من خلالها دوراً يليق باحتياج الثقافة العربية للحوار الجاد مع الثقافات الأخرى وخاصة الأفريقية.