أزمة العلاقات السورية- السعودية
أدلى السيد فاروق الشرع نائب رئيس الجمهورية في سوريا مؤخراً بتصريحات صحفية طال بعضها الدور العربي للمملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من أنه قد وصف هذا الدور بأنه "مهم" إلا أنه أضاف لوصفه هذا أنه مصاب حالياً بما يشبه الشلل، ودلل على ذلك بمؤشرين أولهما فشل تنفيذ اتفاق مكة الذي لعبت المملكة الدور الرئيسي في التوصل إليه، وكان قد اعتبر أن بنوده تم التوصل إليها في دمشق، والمؤشر الثاني هو الغياب السعودي عن الاجتماع الأمني الأخير لدول جوار العراق في دمشق. وأشار الشرع إلى أن السعودية كان يمكن أن تشارك في المؤتمر بموظف من سفارتها، لكنها تعمدت عدم الحضور، وأبدى استعداد بلاده لإقامة علاقات استراتيجية وممتازة مع السعودية مشيراً إلى أن الخلل لا يأتي من الجانب السوري.
ردت المصادر الرسمية السعودية بعدها على التصريحات السابقة فوصفتها بأنها "نابية"، وهو وصف يشير بالمعنى اللغوي الصرف إلى الخروج عن السياق أو المألوف، وإن كان في معناه الاصطلاحي يبدو أقسى من هذا بكثير، ورأت هذه المصادر في كلام الشرع عن الدور السعودي الكثير من الأكاذيب والمغالطات، واعتبرت أن وصف الشلل يخص السياسة التي يمثلها الشرع، ولم ترجع الخلل القائم في العلاقة إلى مواقف المملكة وإنما إلى المواقف "التي تنكرت لوحدة الصف العربي، وعملت على نشر الفوضى والقلاقل في المنطقة، ناهيك عن مسؤولية بعض الأفراد -ومنهم السيد الشرع نفسه- عن هذا الخلل". أما الحديث عن أن اتفاق مكة قد وضعت بنوده في دمشق فقد اعتبرته الدوائر السعودية المسؤولة إهانة لا تغتفر للقيادات الفلسطينية (باعتبار أن ذلك يصورهم عملاءً لسوريا)، وأكدت هذه الدوائر الحرص على العلاقة بين الشعبين الشقيقين السوري والسعودي مذكرة ببقاء القوات السعودية سنوات في الجولان تشارك في شرف الدفاع عن سوريا، ومشاركة القوات السورية الباسلة في تحرير الكويت.
وهكذا فإنه في مقابل أوصاف الشلل والمسؤولية عن الخلل في العلاقات التي أسبغها الشرع على الدور السعودي عربياً حصدت السياسة السورية من التصريح السعودي أوصاف الكذب والمغالطة ورد الاتهام بالشلل بمثله بالنسبة للسياسة السورية. وأقر التصريح أن ثمة خللاً في العلاقات السعودية- السورية، لكنه كذلك رد الاتهام بالمسؤولية عنه إلى السياسة السورية، وإلى الشرع تحديداً، بالإضافة إلى وصف كلامه عن الدور السعودي بأنه لا يمكن أن يصدر عن إنسان عاقل ومتزن، والحديث عن "الأصوات المنكرة التي ستذهب ويذهب أصحابها أدراج الرياح" والتوصيف العام لتصريحات الشرع بأنها انحدار إلى أسلوب يستهتر بوضوح بالتقاليد والأعراف التي تحكم العلاقات بين الدول العربية.
لم تكن في تفجر هذه الأزمة أية مفاجأة، فثمة اختلاف بين التوجهات السعودية والسورية بدا واضحاً على الأقل منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006، عندما بادرت السياسة السعودية بالاعتراض على مسلك المقاومة اللبنانية الذي اتُخذ ذريعة من قبل إسرائيل لهذا العدوان فيما كان واضحاً أن سوريا تؤيد هذا المسلك. وقد بلغ الاختلاف ذروته في خطاب الرئيس السوري عقب توقف القتال في أغسطس 2006، والذي تحدث فيه عن "أنصاف المواقف وأنصاف الرجال" فيما اعتبر إشارة إلى مواقف عربية على رأسها المواقف السعودية والمصرية والأردنية، وتسبب ذلك في أزمة في العلاقات السورية مع تلك الأطراف احتاجت جهداً كبيراً للتوسط بين سوريا والسعودية بالذات لضمان حضور سوريا قمة الرياض 2007.
غير أن عبور الأزمة في حينه وحضور سوريا هذه القمة لم يكن يعني القضاء على الخلاف في التوجهات، فالمملكة العربية السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي إضافة لمصر والأردن، صارت تشكل مجموعة توصف من السياسة الأميركية بـ"الاعتدال"، وتحافظ على مستوى واضح من التنسيق مع هذه السياسة، فيما تعتبر سوريا وإيران وغيرهما من قبل السياسة الأميركية قوى عدم استقرار في المنطقة، وإن لم يمنع هذا تنسيقاً سورياً وإيرانياً مع الولايات المتحدة في قضية مهمة كالشأن العراقي، وهكذا بقي الخلاف بين التوجهات السورية والسعودية قائماً ومستعداً للظهور إلى العلن في أية لحظة مع أي متغير جديد، ويبدو أن هذا المتغير في السياق الحالي يتعلق باقتراب الوضع في لبنان من الحسم، والدور السعودي النشط فيه بما يفضي إلى تنافس الأدوار بين السعودية وسوريا، وربما نجد دليلاً على هذا في حدوث استقطاب مماثل على الساحة اللبنانية بين أصدقاء سوريا وأصدقاء السعودية، وأن هذا الاستقطاب قد تلا مباشرة تطورات الأزمة الأخيرة.
مع ذلك فإن الأهم الآن من البحث عن الأسباب المباشرة للأزمة الراهنة في العلاقات السورية- السعودية هو التذكير بدلالاتها، وأول هذه الدلالات أنها تأتي في توقيت بالغ السوء بالنسبة للنظام العربي أو ما بقي منه. فالمفروض أننا الآن في قلب عملية استكمال تنفيذ قرارات قمة الرياض 2007 التي كانت لها مواقف غير تقليدية من قضايا كالأمن القومي العربي، والانتشار النووي في المنطقة، والقمة الاقتصادية- الاجتماعية العربية، ومن شأن استمرار الخلاف السوري- السعودي في هذه اللحظة وتفاقمه أن يؤثر دون شك على العملية الجادة التي كانت الأمانة العامة للجامعة العربية تتابع من خلالها هذه القرارات، خاصة وأن المكان المحدد للقمة القادمة (مارس 2008) هو دمشق، ولنتخيل -لا قدر الله- النتائج التي يمكن أن تترتب على استمرار هذه الأزمة بالنسبة لمؤسسة القمة العربية إلى حد يحول دون حضور السعودية لها أو يؤدي لتخفيض مستوى تمثيلها إلى الحد الأدنى، ولذلك فإن التحذير واجب من الآن من مغبة تصاعد الأزمة.
أما الدلالة الثانية فتتعلق بما كان يسمى بالمثلث المصري- السوري- السعودي، فقد تعلق الكثيرون بهذا المثلث كقاطرة للنظام العربي قادرة على الخروج به من أعتى أزماته، والحقيقة أن ثمة شواهد تجريبية تبرر هذا التعلق، فقد لعب المثلث دوراً لا ينكر في التصدي بنجاح لمخططات كحلف بغداد في 1955، والمطالبة العراقية الأولى بالكويت في1961 (وقتها كانت مصر وسوريا تشكلان دولة واحدة)، وإنجاز حرب أكتوبر 1973، وتحريك الجمود في النظام العربي الناجم عن تداعيات أزمة الخليج الثانية. غير أنه لا شيء يبقى على حاله، فقد نقلت المتغيرات العالمية والإقليمية أطراف المثلث من موقع التصدي الناجح لمخططات الأحلاف الغربية التي قادتها الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي إلى موقع التحالف مع السياسة الأميركية لإخراج القوات العراقية من الكويت، وتعثرت العلاقة غير مرة بين ضلعين من أضلاع المثلث أو بين أضلاعه جميعاً، بالإضافة إلى أن هذا المثلث لم يكن مؤهلاً في أي وقت لقيادة مستقرة للنظام العربي بالنظر إلى عدم تمثيله للمغرب العربي، فضلاً عن أن خبرة التجربة الأوروبية تشير إلى أن فكرة القاطرة تتكون ممن لديهم استعداد للمضي قدماً في عملية التكامل، وليس إلى مثلث أو مربع أو غيرهما.
والواقع أن القاهرة قد دخلت في خطوط هذه الأزمة لا كوسيط كما كان الحال قبيل قمة الرياض، وإنما كطرف وفقاً لما نقلته بعض الصحف العربية عن مصدر دبلوماسي مصري رفيع المستوى نُسِبَ له استغراب المصريين -بشكل خاص- لما ورد في حديث الشرع بشأن عدم الجرأة على عقد قمة ثلاثية مصرية- سعودية- سورية على هامش القمة العربية في الرياض.
وإذا كانت الأزمة الراهنة في العلاقات السعودية- السورية أو في داخل المثلث السوري- المصري- السعودي على هذه الدرجة من الخطورة فهل يمكن تجاوزها بسرعة حتى لا تلقي بمزيد من الظلال وأحجار العثرة في طريق العمل العربي المشترك؟ الواقع أن هذا ممكن موضوعياً بشرط إدراك عمق الأزمة، خاصة وأن مظاهرها الراهنة قد أفضت إلى استقطاب تجاوز حدود أطرافها المباشرة كما بدا بصفة خاصة في الساحتين اللبنانية والفلسطينية، وبدلاً من أن يختلف العرب ويتبادلوا الاتهامات فيما بينهم على الرغم من همومهم المشتركة عليهم أن يدركوا أن الجميع يتحرك، ولكن الشلل عام في النتائج والفعالية، وأن ثمة قوى عالمية وإقليمية صارت نافذة في الشأن العربي، وهي الأولى بأن نوجه جهودنا لمواجهتها بدلاً من الاحتراب السياسي والملاسنات الإعلامية.