حدود القوة: متابعة للمشهد الدولي
يبدو أن اللحظة الأميركية في مسار السياسة الدولية ستكون أقصر من توقعات العديد من منظري العلاقات الدولية، واللحظة المنفردة هذه هي التي تصورناها سمة النظام الدولي لعقود قادمة مع نهاية القطبية الثنائية، شعور تعمق وقراءة كادت أن تكون من المسلمات مع انهيار الاتحاد السوفييتي، لحظة القطب الواحد الذي يدير شؤون المعمورة باستقلالية وانفراد، وهذه الفترة هي التي عرّفها "فرانسيس فوكوياما" بنهاية التاريخ، فترة البحث الأميركي عن عدو، والتي اتسم بها عقد التسعينيات بعد أن زال خطر اللون الأحمر، لون "ماركس" و"إنجلز" و"لينين" الذي بات باهتاً في أيامه الأخيرة، مثقلاً ومحبطاً بأداء اجتماعي واقتصادي وسياسي متواضع.
العالم الذي نراه يتشكل حولنا لا يبدو بالضرورة أحادي القطبية، ولعل النمو المتسارع للاقتصاد الصيني خير دليل على أن عالم القطب الواحد القوي، الآمر الناهي تصور تتجاوزه الأحداث يوماً بعد يوم، فتوزيع الثروة والثقل الاقتصادي في عقدنا هذا ليس هو غربي في حدته كالعقود الماضية، ودول كالهند والصين ومراكز أخرى باتت جزءاً رئيسياً في الاقتصاد الدولي الحديث. وفي سعينا للتعلم من العالم الذي حولنا نجد أننا نطرق باب الشرق مراراً بينما كنا في السابق نطرق أبواب أميركا وأوروبا حصرياً للاستفادة من التجارب، فعالمنا على ما يبدو لن يكون عالم القطب الأوحد وخاصة أن هذا القطب متورط في مستنقع شرق أوسطي لا نعلم للآن عمقه، فالتجربة العراقية كشفت حدود القوة التي تواجهها الدول الكبيرة وهي تخوض في تفاصيل المشهد الإقليمي المتشابكة. ولاشك أن المسار العراقي القادم سيلقي بظلاله على تقييم أميركا لدورها القادم، وهو تقييم داخلي لاشك أنه سيكون قاسياً وهو ينقد إحباطات تجربة واشنطن في العراق بخسائرها البشرية والمادية والسياسية.
والواضح أن الإدارة الأميركية القادمة، في ثوبها "الجمهوري" أو "الديمقراطي"، لن تكون في تدبير علاقاتها الخارجية، متجاهلة للحاجة إلى الحلفاء وإلى المؤسسات الدولية، فمثل هذه الشراكات، وإن كان تركيبها وترتيبها صعباً ويحتاج إلى جهود دبلوماسية مضنية، إلا أنها تحالفات أساسية وضرورية كما رأينا في سير الأحداث بعد سبتمبر مركز التجارة الدولي، وفي مثل الإقرار بهذه الحاجة وضرورة هذه الشراكة اعتراف بأن اللحظة التي تحدثنا عنها لا تمت لواقع المشهد الدولي بصلة، فلا انفراد في إدارة العلاقات الدولية، لأن قيمة هذا الانفراد باهظة وتكاليفها لا يتحملها حتى أكثر الدول قوة ونفوذاً.
ولعل هذه الأحادية الأميركية المفرطة مسؤولة إلى درجة كبيرة في هبوط شعبية واشنطن في العديد من الأطراف، وهي شعبية تصطدم في عالم اليوم بخوف متجدد من كولونيالية جديدة تلد من عولمة، ونظام تجارة حرة، وغزو ثقافي، بعضه مخطط له سلفاً، وجزء كبير منه ينضح بفعل زخم مصاحب لتأثير هذه الظواهر. ولنا أن نتساءل: ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على التقليل من شدة هذه الأحادية التي قد يرى البعض أنها طبيعية لقطب أوحد في ممارساته لعلاقاته الدولية، طبيعة متأصلة في قوة بهذا الحجم يلازمها ولا تستطيع أن تتحرر منه.
ولعل حالة أميركا اللاتينية جديرة بالتمعن، فالبحث في هذه الدول عن مسار يجمع بين الاستقلال والاستقرار والأمان الاجتماعي، أدى إلى منهج لا يتفق بالضرورة مع توقعات واشنطن للمنطقة، ففي مرحلة تعزيز الديمقراطيات، وهي المرحلة التي تتبع ما يعرف بالموجات الثلاث، نجد أن النظم الديمقراطية في القارة اللاتينية تسعى إلى تبني تجارب لا ترى في واشنطن الصديق والقريب، فإلى جانب التجارب الصاخبة كقلعة كاسترو الصامدة وتجربة شافيز الشعبوية، نجد "اليسار" الأهدأ، وقد وصل إلى حكم العديد من عواصم القارة من مونتيفيديو إلى سانتياغو، ولا يمكن تفسير اضطراب هذه العلاقة بين واشنطن وأميركا اللاتينية بأنها من صنع إدارة بوش "اليمينية"، ولكنها مأزومة بتراكم تاريخي لا يمكن تجاهله.
الفترة القادمة، على ما يبدو، ستشهد تعزيزاً لما نراه يتكون وتتحدد ملامحه أمامنا، أقطاب إقليمية جديدة تبرز وقطب دولي ينكفئ، هي مزهوة بنجاحها ونموها بينما هو متقلص من خلال تورطه في مشاريعه الخارجية ودعوات المراجعة والنقد الذاتي الداخلية، أقطاب متعددة تزيد أهميتها في النظام الدولي، ولكنها لا تستطيع أن تدير شؤونه دون هذا القطب الأكبر، وهو لابد أن يدرك أنه وبالمقابل لا يستطيع أن يتجاهل دور هذه الدوائر المتعددة، مشهد لاشك أنه يحتاج لبعض الوقت كي ينضج ويتبلور، ولكنه مشهد جدير بالمتابعة والتأمل.
الشق الآخر الذي لابد من أخذه في الحسبان يكمن في عجز القوة أن تحسم الصراع، فالأمثلة أمامنا عديدة بأن القوة والعمل العسكري يستطيعان أن يهزما ولكنهما لا يستطيعان أن يحسما، وها هي العديد من الحالات التي تؤكد مثل هذا الاستنتاج، فبعد النتائج العسكرية السريعة يأتي العمل السياسي المضني في ظروف أزمها الانتصار العسكري، إنه مشهد رأيناه في البلقان ونراه في العراق، والاستنتاج أننا أمام دعوة عقلانية لتغليب الجهد السياسي والدبلوماسي المشترك على المغامرة العسكرية المنفردة، وفي هذا الشأن إعادة الاعتبار للمنظمات الدولية والإقليمية ودعوة للعمل على تفعيل دورها.
ومثل هذه القراءة نتاج أحداث نراها حولنا، لابد لنا من أن نستوعب دروسها وأن تساعدنا في فهم تغيرات النظام الدولي حولنا، فنحن في المحصلة النهائية جزء منه ونتأثر سلباً وإيجاباً بتطوراته، ولو تبنينا هذا الطرح في العقد القادم فقد نكون في حال أفضل من تأزم مستمر يبدؤه العمل العسكري ولا ينتهي منه.