نحو أساليب جديدة لتقييم طلاب الجامعات
ماذا يتعلم الطلاب خلال المرحلة الجامعية؟ للإجابة عن هذا السؤال شكلت لجنة لدراسة التعليم العالي في أميركا برئاسة وزيرة التعليم الأميركية "مارجاريت سبيلينجز" التي أثارت سؤال التقييم الجامعي ومسألة الاختبارات المعيارية، وما إذا كانت فعلاً كفيلة بالإجابة عن السؤال أعلاه. والواقع أن الأبحاث التي أجريناها على الموضوع، تثبت أن تلك الاختبارات عاجزة، في الحقيقة، عن تقييم المهارات التي اكتسبها الطالب على امتداد حياته الجامعية والإحاطة بتفاصيل عملية التحصيل الجامعي. وفي هذا الإطار قامت جامعة واشنطن بالإشراف على دراسة تهدف إلى تسليط الضوء على مرحلة التعليم الجامعي، حيث أصدرت كتاباً تحت بعنوان "من داخل التجربة الجامعية" يوفر أدلة وقرائن قاطعة تشير إلى أن الاختبارات الوطنية التقليدية غير قادرة على قياس منسوب التعلم الجامعي لدى الطلبة. لكن في مقابل ذلك كشفت الدراسة أن تتبع مسار الطالب على امتداد فترة زمنية، فضلاً عن التركيز على تقييم الكلية في مجال التخصص، ثم الاهتمام بعملية التقييم الذاتي التي ينجزها الطالب هي أفضل الوسائل المتاحة لقياس مدى نجاح الطالب في حياته الجامعية واكتسابه للمهارات الضرورية.
بدأت جامعة واشنطن دراستها في عام 1999 لتشمل 304 طالباً، وعلى امتداد الأربع سنوات، قام الفريق المشرف على الدراسة بتتبع الطلبة، وتقصي ما تعلموه طيلة تلك الفترة، وأين تعلموه، بالإضافة إلى كيفية تحسين عملية التعلم. وقد اعتمد الفريق الذي أجرى الدراسة على حوارات ومسوح شملت الطلبة، فضلاً عن الاطلاع على ملفاتهم الدراسية. ويكفي هنا استعراض تجربة طالبين لتسليط الضوء على الأمور المهمة التي تعجز الاختبارات المعيارية عن الانتباه إليها لدى تقييمها للطلبة. فقد التحق الطالب "جو" بجامعة واشنطن بعدما تلقى دروساً متقدمة في الثانوية العامة. ورغم تطلعه الأول للتخصص في الهندسة الفضائية، فإنه سرعان ما غير رأيه إثر زيارة قام بها إلى مهرجان محلي عن "شكسبير" أقنعه بأن مباهج الحياة هي أهم من أن تهدر. وفي شهره الأول الذي قضاه في الجامعة كتب "جو": "إنني أعتبر مقامي هنا فرصتي الكبرى في الحياة لتعلم شيء ما. وهو السبب الرئيسي الذي جاء بي إلى هذه الجامعة وأقنعني بدراسة مجموعة من التخصصات. ورغم أنني غير متأكد مما أود أن أفعله بحياتي، لكنني على يقين بأن دراستي الجامعية ستمكنني من الوصول إلى ما أريده".
وخلال فترة الأربع سنوات التي قضاها "جو" في الجامعة اكتشف العديد من التخصصات والمجالات من بينها علم الفلك، لينتهي به المطاف متخصصاً في الأنثروبولوجيا وتاريخ الأفكار المقارن. وانضم بعدها إلى موقع للحفريات، وتعلم نظم الشعر ودرس العديد من الشعراء المعروفين، كما قام بتدريس الرياضيات لطلبة المدارس الثانوية. وطيلة المرحلة الجامعية اضطر "جو" للعمل كي يتمكن من تسديد رسوم الدراسة. وما أن تخرج من الجامعة حتى سافر إلى الصين واليابان بعدما تغلب على خوفه من السفر، حيث تعلم اللغة الصينية. أما "سارة" فقد دخلت الجامعة بنية التخصص في مجال العلوم وإجراء البحوث، حيث عبرت عن ذلك بقولها "إنني أريد أن أتعلم عن الحياة في المدينة، وأن أتخصص في العلوم. إنني أريد أن أختار مجالاً معيناً وأن أحيط به... وأود كذلك أن أتعلم كيفية إجراء التسويات والعمل مع الفريق، كما أتطلع إلى العمل مع أستاذ جامعي وصل إلى ذروة المعرفة، ومع ذلك مازال يعشق عمله".
وطيلة الفترة الممتدة من 1993 إلى 2003 اختارت "سارة" تخصص إدارة الغابات، وشاركت في العديد من الأنشطة الرياضية، كما أخذت دروساً في علم الإحصاء والتاريخ والعلوم السياسية. وفي عامها الجامعي الثاني قررت "سارة" فجأة، بعدما لاحظت أنها تفتقد للأصدقاء وأنها شبه تائهة، الانتقال إلى جامعة أخرى، حيث أخذت دروساً في علم التواصل. لكنها سرعان ما أدركت أن التواصل ليس ما تريده لتعود مجدداً إلى جامعة بوسطن، وتستأنف تخصصها في إدارة الغابات، وهو ما تطلب منها تحليل ومناقشة نموذج اندلاع حريق في إحدى الغابات والتوصل إلى الحلول الناجعة للتصدي له وإنقاذ الغابة. وفيما يتعلق بالنقطتين الحاسمتين في حياتها الجامعية والمتمثلتين في مغادرة جامعتها الأولى، ثم الرجوع إليها تقول "سارة": "لقد منحني ذلك ثقة جديدة بنفسي، وجعلني أثابر، وأختار الأفضل حتى ولو كان صعباً".
فكيف إذن نقيس ما تعلمه "جو" و"سارة" في الجامعة؟ إن النماذج المستقاة من أعمالهما في ميدان التفكير النقدي، والكتابة تشير إلى نتائج جيدة، وأن التعلم تحقق بالفعل. غير أن التقييم، الذي انصب على التخصصات التي اختارها الطالبان عبر اختبارات معيارية تجرى على الصعيد الوطني وتركز على المهارات العامة والمعرفة الضرورية لكل تخصص، لم يستطع رصد المعلومات والتفاصيل التي أحاط بها "جو" و"سارة" طيلة مسيرتهما الدراسية. والواضح أن الاختبارات المعيارية تتجاهل تلك الإنجازات التي كد الطلبة لاكتسابها على مدى أربع سنوات من التحصيل الجامعي. لذا وانطلاقاً من النتائج التي خلصت إليها الدراسة تقوم حالياً الكليات المختلفة بجامعة بوسطن بإعادة النظر في وسائل تقييم الطلبة. وفي الوقت نفسه تستمر الدراسات في التركيز على تقييم عملية التعلم المرتبطة بقاعات الدرس، لكنها ليست بالضرورة جزء منها.
كاثرين هوفمان باير
باحثة أميركية متخصصة في مجال التعليم العالي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"