حصاد العولمة... إفقار الدول "النامية" وتهشيم الطبقة الوسطى!
رغم الوعود البراقة التي صاحبت انطلاق موجة العولمة، وفوائدها المنتظرة التي رُوِّج لها على نطاق واسع في العالم، فإنها مازالت تنتج العديد من الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية، سواء على الصعيد العالمي بين الدول، أو حتى داخل المجتمعات. وهكذا رأينا كيف بدأت تنحسر التوقعات الوردية حول العولمة وتتراجع مكاسبها الكثيرة في العديد من بقاع العالم، حيث تعالت أصوات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تحذر من مفاسد العولمة، لاسيما إذا ظلت تقتفي النموذج الاقتصادي الأميركي وتركت العولمة منفلتة من العقال دون ضوابط. وقد أصبحت الأصوات المعارضة للعولمة أكثر حدة في ظل اتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية في الدول المتقدمة، كما تراجعت الوعود السابقة بتحقيق الرفاهية والازدهار لشعوب العالم. وفي الدول النامية، حيث تبرز آثار العولمة بشكل أوضح، تعاني الطبقة العاملة التي تفتقر إلى المهارات العالية من تقلص أجورها وانحدارها إلى صفوف الفقراء.
وغالباً ما تجهل اليد العاملة، أو حتى الموظفون من الطبقة الوسطى، أن ما يقومون به من أعمال ويؤدونه من وظائف في بلدانهم، يتقاضون عليه رواتب أقل بكثير مما يتقاضاه نظراؤهم في بلدان أخرى. ولأن النظام العالمي الحالي يسمح فقط بانتقال رؤوس الأموال ويغلق الأبواب في وجه العمال، يتم تشجيع ما يسمى بترحيل الوظائف إلى الدول الأقل تقدماً للاستفادة من يد عاملة أقل تكلفة. والهدف النهائي دائماً هو تعظيم أرباح الشركات وفي الوقت نفسه تفادي هجرة العمال إلى دول الشمال. بالإضافة إلى ذلك يبرز عامل آخر تتسبب فيه العولمة بشكل مباشر، ويتمثل في انتشار المحلات الكبرى التي تعرض بضائع منخفضة. فهذه المحلات التي تبيع بضائع رخيصة للعمال في دول مثل الولايات المتحدة وتشجع على الاستهلاك بأسعار لا ترهق جيوب محدودي الدخل، تؤكد نموذج المحافظين في الاقتصاد الذي يدعو الشركات إلى تقليص النفقات للحفاظ على أرباحها، كما يحث الدول على خفض الضرائب والتقليل من الخدمات الاجتماعية للحفاظ على تنافسيتها على الصعيد العالمي.
والنتيجة المنطقية للعولمة، كما تدور عجلتها حالياً، هي انبثاق مجتمع مُختل، حيث المستفيدون من العولمة الذين يملكون رؤوس الأموال ويتوفرون على التعليم المناسب يتربعون على قمة الهرم المجتمعي، بينما يتراجع المستوى المعيشي للطبقة الوسطى بعد حرمانها من الخدمات الاجتماعية والصحية التي توفرها الدولة، وبعد تراجع القيمة الفعلية للرواتب، خصوصاً في ظل البلدان التي تشهد معدلات مرتفعة من التضخم. وينطبق هذا الأمر أيضاً على المجتمع الأميركي الذي بدأت تخترقه الفروق الاجتماعية الحادة ويفرغ من الطبقة الوسطى. أما بالنسبة للبلدان النامية التي تسعى المؤسسات المالية العالمية والبلدان الغنية، إلى إقناعها بفوائد العولمة وضرورة الانخراط في الاقتصاد العالمي، فهي تعاني الأمرين جراء اتفاقيات التجارة الحرة مع دول الشمال ذات الشروط المجحفة وغير العادلة. فبعد مرور عشر سنوات تقريباً على توقيع اتفاقية "نافتا" التي تهم دول أميركا الشمالية والمكسيك، ازدادت الفروق في الدخل بين المكسيك والولايات المتحدة إلى أكثر من 10%. والأكثر من ذلك أن المزارعين الفقراء في المكسيك أصبحوا مضطرين إلى التنافس مع المحاصيل الأميركية المدعومة حكومياً، داخل المكسيك نفسها، وفقاً لما تنص عليه اتفاقية "نافتا" من ضرورة فتح الحدود أمام المنتجات الفلاحية.
وبسبب استحالة التنافس مع المحاصيل الأميركية الرخيصة التي تغرق الأسواق المكسيكية، يهجر المزارعون أرضهم ويتجهون نحو المدن لتتفاقم بذلك المشاكل الاجتماعية ويصعب على السلطات حلها. وعندما تضيق المدن بقاطنيها يولي العديد من المكسيكيين وجوههم شطر الولايات المتحدة في رحلة شاقة تخلف الكثير من الضحايا. ولعل الحل الأمثل لهذا الاختلال الذي تكرسه اتفاقيات التجارة الحرة هو تشبث المكسيك وكل الدول المشابهة لوضعها بالرسوم الجمركية على المنتجات الفلاحية القادمة من الشمال لمواجهة الدعم الحكومي للقطاع الزراعي في البلدان الغنية، أو أن تقوم هذه الأخيرة، وخصوصاً الولايات المتحدة برفع الرسوم المفروضة على قصب السكر وغيره من المنتجات الفلاحية المكسيكية. واللافت حقاً أن الدول المتقدمة تفرض رسوماً جمركية على الدول الفقيرة تفوق بأربع مرات ما تفرضه تلك الدول الغنية على بعضها بعضاً. وفي المقابل تكلف اتفاقيات التجارة الحرة الدول الفقيرة ثلاث مرات أكثر مما تتلقاه من مساعدات إنمائية من الدول الغنية بسبب القيود التي تفرضها هذه الأخيرة على دخول المنتجات الفلاحية للبلدان النامية.
إن النظرية الاقتصادية لا تزعم أن الجميع سيستفيدون من العولمة، لكنها تؤكد أن صافي المكاسب سيكون إيجابياً، وبالتالي سيقوم الكاسبون بتعويض الخاسرين دون أن تتوقف عجلة التقدم للطرفين معاً. إلا أن المحافظين يزعمون أن القدرة على الاستمرار في المنافسة في ظل العولمة تتطلب تخفيض الضرائب وتقليص إعانات الضمان الاجتماعي. وقد حدث ذلك بالفعل في الولايات المتحدة، حيث تراجعت الضرائب، لكن وحدهم الكاسبون استفادوا من تخفيض الضرائب. ونتيجة لهذا فقد تحولت الولايات المتحدة والبلدان التي سارت على خطاها إلى دول غنية تقطنها شعوب فقيرة.
بيد أن النموذج الأميركي ليس الوحيد في العالم، حيث نجحت الدول الاسكندنافية في البرهنة على وجود نماذج بديلة. وبطبيعة الحال، لابد أن يسعى القطاع الحكومي، مثله في ذلك مثل القطاع الخاص، إلى تحقيق المزيد من الكفاءة. إلا أن الاستثمارات في مجالات مثل التعليم والبحث، إلى جانب وجود شبكة أمان اجتماعي قوية، من شأنها أن تؤدي إلى إنشاء مجتمع أكثر إنتاجية وأكثر تنافسية، حيث يصبح الأمان والمستوى المعيشي المرتفع من الأمور المتاحة للجميع. والحقيقة أن وجود شبكة أمان اجتماعي قوية، في ظل اقتصاد يقترب من التشغيل الكامل للعمالة، يشكل بيئة مشجعة لكافة الأطراف المعنية –من عمال، ومستثمرين، وأصحاب عمل- للمشاركة في تحمل المجازفة التي يتطلبها الدخول في استثمارات جديدة وإنشاء شركات جديدة.
إن المشكلة هنا تكمن في تخلف العولمة السياسية عن العولمة الاقتصادية. فقد أصبح كل منا أكثر اعتماداً على الآخر وتزايدت الحاجة إلى العمل الجماعي، لكننا نفتقر إلى البنية المؤسسية اللازمة للقيام بهذا على نحو فعّال وديمقراطي.
الحقيقة أن الحاجة إلى المنظمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية لم تبلغ هذه الدرجة من الإلحاح سابقاً، ونادراً ما كانت الثقة في هذه المؤسسات متدنية إلى الدرجة التي بلغتها اليوم. وقد أعربت الولايات المتحدة، القوة العالمية العظمى المنفردة، عن ازدرائها بالمؤسسات الدولية، بل عملت بكل همة واجتهاد من أجل تقويض القواعد التي تقوم عليها هذه المؤسسات. وإن الفشل الوشيك لجولة التنمية التابعة لمحادثات التجارة العالمية، والتأخير الطويل لمطالبة مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار في لبنان، لا يشكلان سوى أحدث نموذجين لازدراء أميركا للمبادرات المتعددة الأطراف!
جوزيف ستيجليتز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خبير اقتصادي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"