تمتاز حياة المجتمعات المتطوّرة بأنها تنهض على أسس وركائز لا بد منها؛ ليتحقق لها وجودها في الحياة، وتقدمها في عملية البناء، وحضورها في المجتمع الإنساني، ومن هذه الركائز الأفكار التي تتحرك لتنجز رؤى للمستقبل وروافد تدفع البشر إلى السير وراءها، وهذه الرؤى والأفكار يصنعها رجال متنوّرون يُؤْثِرون أن يقدموا نتاج فكرهم وتدفُّق معرفتهم لبناء الإنسان في أوطانهم. وهؤلاء هم المفكرون والمبدعون والأكاديميون. ومن نماذج بناء الوعي العربي المعاصر المستنير يظهر أمامنا الأستاذ الدكتور شملان يوسف العيسى.
كان المفكر العربي والأكاديمي الكويتي الأستاذ الدكتور شملان يوسف العيسى، الذي آثر أن يغادر دنيانا في صباح يوم الخميس الموافق 9 أبريل 2020، ذا رؤية تقدمية تفكّك خطابات التشدد، وتعرّي أساليبها ووعيها الزائف، كما كان رجلاً ظل طوال حياته يعمل بوطنية وشجاعة ومحبة للوطن وحده؛ حيث غدا رمزاً من رموزه، وواحداً من الذين حملوا مشاعل التنوير فيه، وسط زحام صخب التيارات والأيديولوجيات، وزخم الصراعات التي ملأت مساحة كبرى من أرضنا العربية.
أجل؛ لقد غيَّب الموت أستاذ العلوم السياسية الدكتور المفكر شملان يوسف العيسى بعد معاناة مع المرض. وقد نعاه عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، عبر حساباتهم، وعدد كبير من مقالات الرأي، واصفين إياه بأنه صاحب الرأي والجرأة في الطرح، مشيرين إلى أن الراحل كان وطنياً محباً لبلده حتى النخاع. وكذلك ودعته جامعة الكويت قائلة: ببالغ الحزن والأسى فقدنا -نحن أسرة جامعة الكويت- فقيدنا الراحل الدكتور شملان، الأستاذ بقسم العلوم السياسية في كلية العلوم الاجتماعية، وهو الذي يُعَدُّ أحد أعلام جامعة الكويت، بعد مسيرة حفلت بالعديد من الإنجازات والإسهامات التدريسية والبحثية والإدارية.
وُلِدَ الراحل الدكتور شملان يوسف العيسى عام 1944، بالمنطقة الوسطى في حي القناعات بفريج الشويخ، وعاش في بيت شيخ دين؛ حيث كان والده الشيخ يوسف بن عيسى القناعي هو مفتي الديار الكويتية وقاضي القضاة. وقد أحبَّ الدكتور شملان السياسة، واختار التخصص في العلوم السياسية في سان فرانسيسكو، ثم درس الماجستير، وحاز درجة الدكتوراه من جامعة تافتس عام 1979، وكان الدكتور شملان مهتماً بالشأن العام، ولاسيما قضايا المرأة. وتولى رئاسة قسم العلوم السياسية سنوات عدة، بالإضافة إلى عمله في اللجان العاملة في القسم العلمي، وأسس مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة الكويت وأداره في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وقدم العديد من الفعاليات الإعلامية والمؤتمرات العلمية والمقابلات التلفزيونية، بالإضافة إلى كونه كاتب عمود صحفي في صحف كويتية وصحف عربية، وفضلاً عن ذلك مقالاته الأسبوعية المتميزة في قسم «وجهات نظر» بصحيفة الاتحاد الغراء.
الدراسة والتدرُّج المهني
طُرحَ على الدكتور شملان العيسى، في حوار صحفي، سؤال عن حياته الدراسية وتدرُّجه المهني؛ فأجاب قائلاً: درست في مدارس خالد بن الوليد والنجاح والمباركية؛ ومن ثم في ثانوية الشويخ، فكانت هذه المرحلة من أجمل مراحل حياتي، ولكنني ما زلت أذكر الظلم الذي أوقعه أهل الكويت على يهود الكويت؛ حيث كانوا يسكنون في حيّنا نفسه، وعندما حصلت أزمة عام 1948 في فلسطين بدأت النعرة القومية الدينية ضدهم؛ فكان إخواني كباراً في السن، وكانوا هم وصبية الحي يأخذون الحجارة ويضربون بها بيوت اليهود، ويكسرون أبوابها وشبابيكها، وكان والدي الشيخ يوسف يثنيهم عن ذلك، ويقول لهم: لا يجوز ذلك لأنهم أهل كتاب. وهذا الذي ذكره الدكتور شملان يحمل في ذهنيته فكر التسامح، وضرورة أن يتم الفرز بين الديني العبادي والسلوك المعادي للحقوق واستقلال الشعوب.
حصل الدكتور شملان العيسى على درجة الدكتوراه من جامعة تافتس بالولايات المتحدة الأميركية عام 1979، ثم التحق بجامعة الكويت أستاذاً بقسم العلوم السياسية (1979 - 2019)، وكان متخصصاً في مجال السياسة المقارنة والتنمية السياسية. كما نشر مجموعة من المقالات العلمية في المجلات الأكاديمية العربية والأجنبية حول السياسات التنموية، وأدوار المرأة في السياسة والتنمية والإعلام.
أخي وأستاذي وصديقي الدكتور شملان العيسى
جميع من عرف الدكتور شملان العيسى يقر بأستاذيته، ودوره التنويري والعلمي الكبير، ولقد عرفت فيه رجلاً شجاعاً جعل من الكلمة رصاصةً ورسالةً تقصد إلى قول الحقيقة بشكل جريء لا مواربة فيه، وسلاحاً يهدف إلى تعرية كل ما يضر حياة المجتمع والناس، ورصاصة تنطلق لتزيل كل ما يعطل التقدم ويعرقل نهوض الوعي البنَّاء. نعم، لقد عرفته أستاذاً جامعياً مستنيراً وراقياً، وكان تأثيره في طلابه يتجلى من خلال جرأة رأيه، ولم تكن الضحكة لتغادره مهما كانت الظروف والأنواء التي تحيط به. ويقتضي الإنصاف مني أن أشير إلى بعض الأمور المهمة التي كانت تجمع بيني وبين أستاذي الدكتور شملان؛ فقد كان -رحمه الله- كما ذكرتُ في كتابي «لا تستسلم.. خلاصة تجاربي»، من أكثر أساتذتي تأثيراً فيَّ، و«لم يقتصر الأمر على الجانب العلمي، بل تأثرت كذلك بشخصيته وأسلوبه في التدريس، وقد تطورت العلاقة بيننا من علاقة طالب بأستاذه إلى صداقة شخصية». لقد أتاح لي أستاذي فرصاً مشرّفة لي في التعامل معه؛ حيث «نفَّذنا كثيراً من المشروعات البحثية المشتركة؛ حيث نشرنا عام 1991 ورقة بحثية مشتركة «اتجاهات طلبة جامعة الإمارات العربية المتحدة حول أزمة الخليج» في مجلة العلوم الاجتماعية الصادرة عن جامعة الكويت».
لقد كان -رحمه الله- كريماً في تقديم المؤازرة ومدّ يد العون إلى كل من عرفهم، أو درَّسهم، أو عمل معهم، من خلال نصائحه وإرشاداته التي كان يسكبها في دروب جميع طلابه وكل عارفيه وقرّائه، وقد لمست ذلك جلياً في الفترة التي كنت أعد فيها رسالتي لنيل درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة الأميركية، كما تزاملنا معاً في قسم العلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة في سنة 1990.
المفكر شملان العيسى ومنهجية الفكر التحرُّري
كان الدكتور شملان العيسى صاحب فكر نيّر ومتحرر؛ وبرغم أنه نشأ في بيت متدين - فقد كان والده الشيخ يوسف بن عيسى، مفتي الديار الكويتية، وقاضي القضاة، ذا طبيعة سلفية؛ ووالدته لها خلفية إخوانية-، فإنه تأثر بالأفكار التقدمية، وكذلك الليبرالية، وقدَّم أفكاراً حاول من خلالها إحداث إصلاحات في المجتمع. وقد رفض في وقت مبكر إقحام الدين في السياسة، ورأى أن تحول القيم الدينية إلى سياسية كارثة حقيقية؛ فقد كان يرى أن السياسة تنطوي على مناورة وخداع، وأن استخدام الدين، أو توظيفه، في خدمة السياسة يُعَدُّ تشويهاً للدين؛ وهذا لا يعني أنه كان ضد الدين كما يُتَّهم؛ ولكنه تمسك بضرورة فصل الدين عن السياسة. كما انعكس تفكيره الليبرالي على نظرته إلى قضايا كانت، وربما لا تزال، محل نقاش وحوار، ومنها على سبيل المثال قضايا المرأة التي حظيت باهتمام خاص.
آراؤه ومواقفه الجريئة
اكتشف الدكتور شملان -رحمه الله- أن الحزبية مصلحة لا تدافع عن القضية؛ فترك الحزبية، وأصبح كويتياً بحتاً يمارس عمله الوطني من خلال تدريسه في الجامعة وأفكاره الجريئة التي كان من خلالها يسعى إلى تحريك مياه الفكر الراكدة في المجتمع. لقد تأثر بالجو السياسي العام في البلد أيام الخمسينيات والستينيات؛ حيث كان الصراع في أوْجِه بين التيارين البعثي والناصري؛ وعندما سئل عن رحلته الطويلة في ميدان العلوم السياسية قال: (أعتقد أنني اخترت التخصص الخاطئ؛ فبعد حصولي على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، وجدت بكل بساطة النواب والوزراء والشعب الكويتي كلهم خبراء سياسة أكثر منَّا نحن المتخصصين؛ فالسياسة كعلم تختلف كلياً عن العمل بها يومياً، سواء من خلال الصحافة اليومية، أو من خلال تصريحات النواب. أنا غير راضٍ عما يحصل في الساحة السياسية، وكل ما يمارَس إنما يتم باسم السياسة؛ حتى إن الدين عملوا له سياسة؛ فالقيم الدينية أصبحت سياسية، وهذه كارثة كبيرة علينا وعلى البلد).
وبعد..
فهذا الذي ذكرناه كله كان ممَّا صاغ نسيج مكونات رجل نبت في وطن؛ ليلقي عليه بظلاله الوارفة علماً واستنارة وحباً، إنه الرجل الأكاديمي الذي نذر كلمته الصادقة لوطنه وتلاميذه وقرَّائه في مختلف الأرجاء في الوطن العربي الكبير.
أجل، هذه رحلة عمر وعطاء للأستاذ الدكتور شملان يوسف العيسى، رحلة امتدت على مدى سنوات، حرص فيها على أن يزرع المعرفة، ويركز على اتباع أسلوب المنهج العلمي والعقلي؛ لنصبح قادرين على النظر في الأشياء بشكل صحيح لتنطلق الحياة في رحلتها البنَّاءة؛ فتتوافر إمكانية الوجود الفاعل والمثمر، وهذا ما قام على أدائه الأستاذ الراحل الدكتور شملان؛ فلنزرع غرسه في حياتنا؛ ليكون ذلك مشعلاً نستضيء به في حياتنا ووعينا وإدراكنا.
لأستاذنا الكبير الرحمة، وله منَّا العرفان والتقدير، إزاء ما قدَّمه في حياته إلى كل من التقاهم وعرفهم.
*كاتب إماراتي