سينحسر وباء كورونا المستجد تدريجياً، بعد أن يبلغ ذروة انتشاره، ثم ينتهي مثل أوبئة كثيرة عرفها العالم من قبل. يصعب تحديد المدى الزمني لانتهائه، إذ يختلف الخبراء والمتخصصون في تقدير الوقت الذي سيستغرقه حتى ينتهي. لكنه سيصبح في النهاية جزءاً من التاريخ الذي حفل بكثير من الآلام.
ولأن هذا الوباء هو الأكثر خطراً وحصداً للأرواح وتأثيراً على حياة الناس اليومية منذ منتصف القرن الماضي، فضلاً عن تداعياته الاقتصادية المتفاقمة، فمن الطبيعي أن يُثار سؤال عن كيفية تصرف العالم عقب انتهائه. فهل يُعنى المجتمع الدولي بالسعي لاستيعاب دروس محنة هذا الوباء بجدية؟ وكيف تتصرف الدول الكبرى، التي ظهر مدى ضعفها أمام فيروس غير مرئي أثار الهلع في مجتمعاتها، ولم تنفعها قوتها العسكرية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، أو تُمكّنها من إيجاد علاج سريع له؟
لم نر فرقاً يُذكر لعدة أسابيع حتى الآن بين الولايات المتحدة بكل قوتها الجبارة، وقبلها الصين، وبلدان صغيرة انتشر فيها الفيروس. وقل مثل ذلك عن الدول الأوروبية التي سجل انتشار الفيروس أرقاماً قياسية في بعضها. وبدا الاتحاد الأوروبي، الذي عدّه كثيرون نموذجاً يُحتذى في التعاون الإقليمي والتكامل، كما لو أنه بناء من ورق. وبدت قرارات أجهزته هزيلة، وتشي بالعجز وقلة الحيلة بشأن تقديم مساعدة جادة لدوله التي صارت بؤراً للوباء بعد الصين، خاصة إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
توجد اجتهادات وتصورات مختلفة في هذا المجال. ويبرز بينها اتجاهان متعارضان في التفكير بشأن كيفية تصرف الدول الكبرى عند انتهاء كورونا. يذهب أحدهما إلى أن العالم لن يبقى كما كان قبل انتشار الفيروس المُميت، وأن الدول الكبرى التي أصابتها وتُصيبها خسائر كبيرة لابد أن تهتم باستيعاب دروس المحنة، وبالتالي مراجعة بعض سياساتها سواء في الداخل، أو على مستوى علاقاتها الدولية. وقد تؤدى هذه المراجعة إلى خفض حدة الصراعات أو بعضها، إلى جانب إيجاد آليات جديدة للتعاون، خاصة في الأبحاث العلمية، والحد من الأنانية المفرطة في هذا المجال.
ويستند هذا الاتجاه إلى تصريحات لقادة ومسؤولين في دول كبرى عدة، ومؤداها أن البشرية تواجه عدواً واحداً خطيراً، وأن خطره هو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن هناك اتجاهاً ثانياً يمضي في اتجاه آخر تماماً، ويرى أن المصالح الضخمة التي تُحرك سياسات الدول الكبرى ستفرض إعطاء أولوية قصوى لمعالجة الأزمات المتراكمة بسبب الإجراءات التي اتُخذت، وستُتخذ، لمواجهة الفيروس، خاصة الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية. ويدعو أنصار هذا الاتجاه إلى ملاحظة أن حديث كثير من قادة الدول الكبرى عن خطر مشترك وعدو واحد يُهدد الجميع، ودعواتهم للتكاتف في مواجهته، يناقض سلوك بعضهم الذين لم يتخلوا عن مواقف عدائية تتخذها حكوماتهم ضد دول أخرى، بما يعني أن الأنماط السائدة في التفاعلات الدولية قبل وباء كورونا لم تتغير في جوهرها، وإن هدأت أو قلت حدتها بدرجات مختلفة. وتبرز في هذا السياق مفارقة يعدها أنصار هذا الاتجاه مؤشراً إلى أن العالم لن يختلف في اليوم التالي لانتهاء فيروس كورونا. ففي الوقت الذي هدأت حدة صراعات كبرى، مثل الصراع التجاري والاستراتيجي الصيني الأميركي، انغمست قيادتا الدولتين في صراع صغير حول المسؤولية عن انتشار الفيروس المُميت، أو نشره بعد تخليقه وفق اتهام وجهه مسؤول صيني كبير ضد واشنطن، التى حمَّلت بكين المسؤولية من زاوية أنه كان بإمكانها محاصرة الفيروس مبكراً لو أقرّت بوجوده منذ أواخر ديسمبر الماضي، ولم تلجأ إلى التعتيم.
ويستنتج أنصار هذا الاتجاه من التلاسن الصيني الأميركي، وضآلة التعاون بين الدول الكبرى في مواجهة الوباء، أن هذه الدول لا تبدو مستعدة لمراجعة سياساتها، الأمر الذي يُرجح عودة العالم إلى ما كان فيه قبل المحنة التي قد لا يجد أصحاب المصالح الكبرى وقتاً لتذكرها.
اتجاهان متعارضان قد يبدو أحدهما فى نظر بعضنا متفائلاً، وقد يرى بعض آخر الثانى واقعياً. وعموماً، مازالت في المحنة فصول قد تؤدي لظهور اتجاهات أخرى في التفكير حول حال العالم بعد كورونا.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية